(1)
حينما يتجلى أمامك منظر مخيف عليك ألا تغلق عينيك، بل يجدر بك النظر إليه مليًّا، فما سوف تتوقعه في خيالك ربما أقسى من الحقيقة.
(2)
هذا ما كان يؤمن به الأخ الأكبر لأكيرا، الذي طلب من أخيه الأصغر عندما تعرضت مدينته لزلزال عنيف عام 1923، أن يفتح عينيه ليرى الحقيقة كما هي، وألا يختبئ داخل عباءة خياله، وليطلق العنان لمشاعره شديدة الحساسية.
أما أكيرا نفسه فقد ولد قبل ذلك بثلاثة عشر عامًا، في العام 1910، كابن ثامن لعائلة ثرية، ليكبر متشبعًا بأفكار والده، المتمسك بثقافته اليابانية، المنفتح بشدة على أفكار الغرب، متأثرًا بمعلمه في المدرسة، تاشيكاوا، الذي كان أول من دربه على التعبير عما يدور بداخله عبر الرسم، ولأنه انضم لاحقًا إلى نادٍ لتعلم الفنون القتالية، فقد أصبح في سن صغيرة شابًّا رياضيًّا ورسامًا مبدعًا.
إلا أنه كان شخصية حساسة للغاية، وشديد التأثر بما حوله، يتعرف بزميل له في المدرسة، مثله شديد الحساسية، سريع التأثر، وكأن كلاًّ منهما عثر على وليفه وتوأمه، وكانت حساسية كلا الصديقين تتجلى بوضوح إذا ما تعرض أي منهما لموقف حرج أو صعب، فيجدا أنفسهما سريعي البكاء، حتى إنهما حصلا على لقب: (الطفلان البكاءان).
(3)
بعد سبعة أعوام من حادثة الزلزال، يخبره الطبيب في المركز العسكري أنه غير لائق بدنيًّا وصحيًّا للخدمة العسكرية، وهو ما ينقذه من الاستدعاء العسكري بعدها بسنوات، حين تندلع الحرب العالمية الثانية.
صبيحة أحد أيام 1935، يقرأ إعلانًا في إحدى الصحف الصادرة في العاصمة طوكيو لشركة للتصوير، يتضمن رغبة الشركة في تعيين مساعدي مخرجين، لا يشترط امتلاكهم أي خبرة سابقة، وعلى الرغم من أن أكيرا لم يكن له أي تخطيط بذلك الشأن إلا أنه استجاب للإعلان وذهب إلى الشركة ليلتحق بالوظيفة المعلنة.
يمر بعدة اختبارات، لم يحقق خلالها مستوى متقدمًا، إلا أن المخرج الشهير كاجيرو ياماموتو كان مقتنعًا به، وقرر قبوله، فوافقت الشركة على ذلك، وحصل أكيرا في بدايات العام 1936 -وهو يبلغ من العمر 25 عامًا- على وظيفته الأولى في مجال الإخراج السينمائي.
خلال السنوات الخمس التالية يقوم صاحبنا بدور المخرج المساعد في عدة أفلام، كان المخرج الرئيسي فيها هو ياماموتو الذي آمن به وبموهبته.
لم تكن هذه الفترة لتمر على أكيرا مرور الكرام، دون تغير شيء في عقله أو موهبته، فكان حريصًا على تعلم كل ما يخص مجاله، بل وعلى احتراف الكتابة، واستقى من أستاذه نظامًا ذكيًّا لرفع كفاءته وإنتاجيته فيها؛ فكان يكتب كل يوم صفحة في سيناريو فيلمه الجديد، ليجد نفسه بحلول نهاية العام قد انتهى من كتابة فيلمين كاملين بأعلى جودة ممكنة.
(4)
العام 1941 يشهد قيامه بآخر أدواره كمخرج مساعد مع معلمه المشهور؛ ليقرر الانتقال إلى مرحلة أخرى من حياته، فيبحث عن سيناريو متميز يستهل به مشواره كمخرج أول للعمل، ويقضي عامين في ذلك البحث.
قبل هذه السنوات بقليل كانت الحرب العالمية الثانية قد اندلعت، وتحرك الجيش الياباني بصفته جزءًا من حلف المحور فغزا مناطق واسعة من الصين، وهرب الكثير من المخرجين وصانعي الأفلام من اليابان خشية الإجبار على التجنيد في الخدمة العسكرية، لكن أكيرا كان محظوظًا بصك الإعفاء الذي حصل عليه منذ وقت طويل، فبقي في اليابان دون قلق، لكن الإنتاج السينمائي في تلك السنوات انخفض بشكل كبير بسبب الظروف العسكرية التي تضرب العالم بأكمله.
في العام 1942 ينشر الروائي الياباني تسونيو توميتا رواية بديعة تحمل اسم: شانشيرو سوجاتا، وكان أكيرا من أوائل من حصلوا على نسخة منها، تعجبه بشدة، ويحصل على حقوقها الأدبية ويقرر تحويلها إلى فيلم، لتصبح واحدة من أنجح الأفلام السينمائية في تاريخ اليابان.
وعلى الرغم من النجاح السينمائي والتجاري للفيلم، إلا أن السلطات اليابانية قررت حذف 18 دقيقة من الفيلم تبعًا لسياساتها العسكرية في ذلك الوقت، وتسبب ذلك الحظر في ضياع عشر دقائق من الفيلم في النسخة المرممة بعد سنوات طوال، واستطاع صناع الفيلم استعادة 8 دقائق فقط من المادة المحذوفة.
لكن المفارقة الغريبة أن البحرية اليابانية تقرر تكريم أكيرا على الفيلم بسبب ترويجه لواحدة من المعارك الشهيرة للجيش الياباني، لكن نقص الموارد المالية أوقف إقامة الحفل، ودفعه هذا النجاح الكبير إلى إخراج فيلم آخر في العام 1944 عن مجموعة من العاملات اليابانيات داخل مصنع، وشهد الفيلم واحدة من ألطف المفارقات في حياته؛ حيث وقع خلاف حاد بينه وبين الممثلة التي قامت بدور رئيسة العاملات واستمر ذلك الخلاف بينهما حتى بعد نهاية الفيلم، لكن الأمر سرعان ما تحول إلى علاقة صداقة تحولت بصورة درامية إلى زواج في شهر مايو /أيار من العام 1945.
(5)
تشهد سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية عودة بطيئة وهادئة للإنتاج السينمائي في اليابان، وتشهد كذلك عودة التلاقي بين أكيرا ورفيق الطفولة والحساسية المفرطة والبكاء السريع، ليكتبا معًا أول أفلامهما
يستمر نجاح أكيرا في الازدياد والتوسع بشكل كبير خلال السنوات التالية، حتى يفتتح شركة إنتاج سينمائي، وبحلول الستينيات يتوجه بأنظاره نحو بلاد الغرب والولايات المتحدة كجماهير مستهدفة من أفلامه السينمائية، وكان ذلك التوجه عقب إنتاجه فيلم “الساموراي السبعة”، والذي حقق نجاحًا تاريخيًّا منقطع النظير دفع صناع السينما لاقتباسه وإنتاج نسخة أمريكية تحمل اسم: العظماء السبعة، وكانت تلك اللفتة التي فتحت عيون الكثير من صناع السينما الأمريكية والغربية على سينما اليابان.
كان عقد السبعينيات هو الفترة الصعبة في حياته؛ فسنوات السبعينيات العشر لم تكن موفقة بالنسبة له؛ بسبب انعدام الإمكانيات تقريبًا وعجزه عن استكمال المسيرة على نفس المسار على طريقته، لكن العودة الضخمة كانت في الثمانينيات حينما ارتبطت إنتاجاته من جديد بهوليوود، وصار يعمل مع الأمريكي الشهير صاحب سلسلة أفلام (العراب) فرانسيس فورد كوبولا.
كانت أخبار عودته للسينما ذات صدى واسع ومبهج في كافة بلدان العالم تقريبًا،: حتى إن السوق الأمريكي كان مبتهجًا بعودته للسينما، حتى صدر فيلمه الأقوى والأكثر شهرة RAN، والذي حقق نجاحًا جماهيريًّا ضخمًا، لكنه ترافق مع تزايد مرض زوجته وتدهور حالته الصحية ما دفعه إلى الابتعاد عن أجواء نجاح الفيلم، والاقتراب أكثر من زوجته الحبيبة رفيقة العمر الطويل.
بنهاية الثمانينيات ودخول حقبة التسعينيات بدا وكأنه على وشك إنهاء مسيرته الطويلة؛ فلم يعد لديه ما يكفي من الطاقة للكتابة والإخراج السينمائي، وأصبحت شركات الإنتاج الياباني غير مهتمة بالإنتاج الضخم له، وأصبحت ترغب في تخفيض الحجم الموجه لأفلامه، كما أنه لم يعد يرغب في التعامل مع الإنتاج الأجنبي.
كتب كورساوا فيلمًا في شهرين اسمه: Dreams، وقبل عرضه في العام 1990 بأيام كان مدعوًّا لحضور حفل الأوسكار في الولايات المتحدة؛ ليحصل على جائزة شرفية عن مجمل إنتاجاته السينمائية عبر مسيرته، كتتويج كبير لما قدَّمه.
استمر كورساوا في الكتابة خلال سنوات التسعينيات لكن بوتيرة أقل من الماضي، حتى العام 1995 حينما كتب فيلم: the sea is watching، والذي عُرض في بدايات العام 1996، وكان بمثابة خط فاصل لنهاية مسيرة سينمائية طويلة، بعدما وصل إلى سن 85 عامًا، وصار يرى أنه قد اكتفى بكل ما أنتج وقدَّم، ولم يستطع أن يقدِّم المزيد.
لازم كورساوا الفراش في سنواته الأخيرة، وأخذ جسده في التدهور، لكن عقله وذهنه ظلا متيقظين، وقضى الشهور والأيام الأخيرة في حياته يشاهد التلفاز، ويسمع موسيقاه المفضلة، وفي 6 من سبتمبر /أيلول عام 1998 أُسدل الستار على حياته الطويلة الممتلئة بحب الفن والقصص التواقة للحب والجمال.
كان موته بمثابة صدمة حزينة للملايين حول العالم، وخرج فيمله غير المنتج للنور بعنوان: After the rain، وشهدت السنوات التالية لوفاته إنتاج أفلامه غير المنتجة، ومعها كذلك مسلسلات رسوم مصوَّرة من كتابته عبر شركة الإنتاج الخاصة به، والتي أدارها ولده من بعده، وفي العام 2005 -حيث الذكرى الخمسون لفيلمه: الساموراي السبعة- أنتجت نسخة مسلسل مصورة من الفيلم تكريمًا له.
وعلى الرغم من رحيله منذ سنوات طوال إلا أن الكثير من إنتاجاته البديعة لا زالت حتى الآن تلقى الاهتمام، بل واهتمت بعض شركات الإنتاج بإعادة إنتاج أفلامه القديمة بإمكانيات أعلى ونسخ أكثر وضوحًا كتكريم تكريمًا لتراثه الطويل.
ظل أكيرا كورساوا حتى الآن عالقًا في ذاكرة الملايين بأفلامه الهادئة المحبة للجمال، والتي صحبت مشاهديها في رحلة بعيدة عن الواقع الذي يرهقهم، وصار بإمكانهم أن يعايشوا -في حكاياته- صورة متفردة للفن والسينما قل ما يقدمها غيره.