الحكّاء الذي نجا
(1)
لا يكفي أن تكون الناجي الأخير، عليك أن تحكي الحكاية، أن تسرد لنا ما وقع لك، أن تبوح بكل شيء فلا تخفي سرا، أن تأخذنا من أيدينا وتشرح لنا خارطة الطريق، ثم تختم حديثك بالحكمة.
(2)
بطلنا هذه المرة هو “كودجو لويس”، وبنين الواقعة غرب إفريقيا هي المشهد الأول من حكايته، حيث يولد في العام 1841 بقرية “أوالي كوسولا”، ليصبح الطفل الثاني من بين اثني عشر طفلا ينجبهم والده من زوجتين.
حياة مستقرة يعيشها الطفل المستمتع باللعب على الطبول، يكبر فيلتحق بالتدريبات العسكرية التي كانت يجريها شباب قبيلته، بغرض الدفاع عن الأرض في وقت لا تهدأ فيه النزاعات بين القبائل.
يحل شهر فبراير/شباط من العام 1860، وقد بلغ من العمر تسعة عشرة عاما، ويصادف ذلك امتناع قبيلته عن دفع الأتاوات المفروضة عليها من قبيلة أخرى، فيقرر ملكها “غيزو” شن هجوم مسلح ضد قبيلة صاحبنا.
لويس لا يحب الحرب، لكنه مرغم عليها الآن دفاعا عن قبيلته، التي للأسف تنكسر شوكتها، وتتعرض للنهب، لكن أشد الخسارات هي مائة وعشرون شابا، يقعون في الأسر، وينتظرهم مصير حالك، لويس من بينهم.
فملك القبيلة المهاجمة يتاجر مع أوربا بالعبيد، ورغم أن بريطانيا وقعت معه في العام 1852 اتفاقية تقضي بوقف هذه التجارة المذلة للإنسانية، إلا أنها ظلت حبرا على ورق، واستمر هو في تجارته كما هي.
يجبر الأسرى على السير على أقدامهم حتى الساحل، وهناك يزج بهم في كوخ مغلق لعدة أسابيع أملا في حضور مشتر، الذي يصل بالفعل واسمه “تيموثي ميهار” وهو صانع سفن، يدفع الرجل مائة دولار ثمنا للشاب لويس، ويدفع أرقاما مماثلة فيمن معه، ويقرر “شحنهم” في سفينته التي ستدخل التاريخ لاحقا “كليتوديا”.
(3)
في ذهول ومشقة لا تحتمل يقضي لويس ورفاقه أيامهم محجوزين في قلب السفينة، يستيقظ كل ليلة على كابوس مزعج يرى فيه نفسه وهو يموت، يحلم بوالدته كأنها النجاة ويتمنى لو أنه يعود إليها، تطول به الليالي وهو يبكي.
تواصل السفينة طريقها، تصل بالفعل ولاية ألاباما الأمريكية ، نحن الآن في العام 1860 أي بعد اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية بعام واحد فقط ، وبعد خمسة وأربعين يوما قضاها الأسرى في السفينة في أسوأ حال.
الأجواء مضطربة في كافة الأرجاء الأمريكية و” تيموني” تاجر العبيد المسيطر على لويس ومن معه يبحث عن كل الطرق التي تسهل بيع من معه وتحصيل المال، يلجأ في جنح الليل إلى مكان مغلق في الولاية ليخبأ بداخله كل من أسرهم ويحبسهم بالداخل ريثما يتمكن من بيعهم.
(4)
تتفرق المجموعة بين اثنين من تجار العبيد هم تيموثي وفوستر، ويصبح لويس من بين من يمتلكهم تيموثي، ويصبح موكلا إليه العمل في عدة مهام كالصيد وبيع الخضروات والفواكه لصالح سيده الجديد.
تبدو الحياة الجديدة مختلفة تماما عما عاشها لويس، إنه هنا ورفاقه العبيد منبوذين ممن حولهم، ضحكات الآخرين وسخريتهم تحيط بهم على الدوام، وإذا ما حاولوا التحدث تبدو لغتهم غير مفهومة لأحد ممن يأسرونهم.
تمر السنوات على هذه الحال حتى يحل العام 1865، ثمة مفاجأة في انتظار لويس ورفاقه، فينما هم يقضون إحدى مهامهم في البحر، إذا بقارب ضخم يصادفهم يقل عددا من جنود الاتحاد، يخبرهم الجنود أنهم قد صاروا أحرارا وأنه ليس عليهم العمل لصالح أحد بعض الآن كعبيد.
لقد انتهت الحرب الأهلية، وأنهت معها العبودية، وبات جنود الاتحاد بعد انتصارهم على الانفصاليين هم أصحاب القوانين السارية في الولايات المتحدة.
يكاد لويس لا يصدق، لقد فاز بحريته أخيرا، وسرعان ما يبدأ عقله في التفكير في كل ما يمكن أن يفعله، يحلم ورفاقه بالعودة إلى أفريقيا مجددا، لكن ضيق ذات اليد يعجزهم جميعا عن ذلك، ليفكروا في حل آخر سيغير كل شيء.
(5)
يبدأ لويس ومن معه في جمع ما استطاعوا إخفاءه من أموال خلال فترة عملهم ويقررون شراء قطعة أرض ليعيشوا فيها طالما أن السفر لم يعد ممكنا، يعدون حصيلتهم فإذا هي مائة دولار ، يعرضون على عائلة تيموثي شراء قطعة أرض منهم لكن العائلة ترفض.
يستمر موقفهم هذا من العام 1868 وحتى العام 1872، حينها تعود العائلة فتوافق على بيع فدانين من الأرض مقابل 100 دولار إلى لويس.
وعلى الفور يبدأ ورفاقه في بناء ما يمكن تسميته “بالمجتمع الأفريقي” في ولاية ألاباما، إنهم يشعرون أن حياتهم الحقيقية قد بدأت للتو في تلك الرقعة الصغيرة من الأرض، ففيها سيزرعون ما يحتاجونه من طعام، وما زاد يقومون ببيعه، بوسعهم أن يفعلوا أي شئء، فهم أحرار الآن.
تستقر الحياة، ويتزوج لويس من فتاة أسمها آبيل، يحبها وتحبته وينجبا طفلين، تمر السنوات فإذا به يقرر أن يصبح حكاء المدينة، يعقد جلسات يروي فيها للناس حكايات بلاده وحكايات استعباده، وما جرى على السفينة، يحدثهم أنه كان أسيرا على متن أخر سفينة عبيد، ظل يحكي ويحكي، توفى كل رفاقه وظل هو حتى آخر لحظة يحكي للناس أنه الناجي الأخير من بين من الذين أقلتهم تلك السفينة.
(6)
ينكر كثيرون في الولايات المتحدة أن تكون هذه الأحداث قد وقعت بالفعل، وأن تكون سفينة العبيد كليتوديا قد حملت هذه القصص كلها.
تمر سنوات طويلة، مائة وخمسون عاما، حتى تقع المفاجأة بالعثور على حطام السفينة في عمق المياه الأمريكية، تلك السفينة التي أغرقتها عمدا العائلة المالكة، رغبة منها لإخفاء أي أثر لجريمة تجارة العبيد التي كانت تعمل بها.
السفينة التي تم العثور عليها تحمل نفس الملامح والتواريخ التي رواها لويس فيما مضى، ومنقوش عليها اسمها، وكأن التاريخ يأبى أن ينسى حكايات المظلومين والناجين، وكأن التاريخ ينصف الحكائين الذين يوثقون ما يجري، خصوصا جرائم الظالمين.