(1)
كما جرت العادة يدعو الأب إلى بيته وُجهاء القرية، يأتي كلُّ واحد منهم يحمل بين يديه جرَّة ذات بطن من صنع خزَّافي بلخاريا، يجلسون في وقارٍ ورزانةٍ في أنحاء البيت، وكأنَّ عليهم أن يقرِّروا مصير بلد بأكمله.
يُولد الحكيم، فتسلِّمه أمه إلى واحد منهم، ذي رأس ولحية أبيضين كالثلج، تطلب منه أن يسمِّيه، يرفعه الشيخ عاليًا ويقول: “اسم البنت يجب أن يُشبه بريق النَّجمة أو لُطف الزهرة، واسم الرجل يجب أن يتجسَّد فيه صَليل السيوف وحِكمة الكُتب، لقد عرفت الكثير من الأسماء، وأنا أقرأ الكتب، لكنَّ كتبي وسيوفي تهمس لي الآن باسم: (رسول)”.
وهكذا يُطلق على الطفل اسم: “رسول”؛ تيمُّنًا باسم رسولنا صلى الله عليه وسلم، في أسرة كانت تتوارث تعلُّم اللغة العربيَّة وتلاوة القرآن الكريم.
(2)
كان ذلك في الثامن من سبتمبر (أيلول) عام 1923 عندما وُلد رسول حمزاتوف، في قرية “تسادا” الواقعة في داغستان، لأب كان يَنظُم الشعر باللغتين الآفارية والعربية.
يبلغ الثانية والعشرين من عمره فيسافر إلى موسكو، ويلتحق بمعهد غوركي للأدب، ومعه القليل من كتبه باللغة الآفارية، ومبلغ زهيد من المال، يدرس اللغة الروسية، ومن خلالها يتعرَّف إلى الأدب العالمي عامَّة، وإلى الأدب الروسي على وجه الخصوص.
ينضم بعد تخرُّجه إلى المعهد نفسه بوصفه مدرِّسًا للآداب، ثم يُعيَّن نائبًا بمجلس السوفيت الأعلى ورئيسًا لاتحاد كتَّاب داغستان.
في رحلته الحياتية يُصدر أكثر من أربعين عملاً أدبيًّا أغلبها مكتوب باللغة الآفاريَّة، باستثناء دواوينه الثلاثة الأخيرة فهي باللغة الروسية.
يحلو له أن يشبِّه مراحل شعره بثلاث زوجات:
أما الأولى: فهي قاسية وعنيدة؛ وهي الحقبة الستالينية التي لم تعرف الرحمة، ورغم عناد هذه الزوجة وقسوتها، فقد كانت الحياة في كنفها آمنة ومهيبة.
والثانية: جميلة وثملة بحريتها وانطلاقها.
والثالثة: هي الزوجة المنشودة التي يبحث عنها الجميع، وهي عادلة وهادئة كما وصفها في قصيدة (الصندوق الأسود)، وفيها كل ما هو خفيٌّ ومثير في حياة الشاعر حمزاتوف.
(3)
أعرف أنه في أعماله يستدعي الحكمة، ويستخدم الفكاهة السوداء؛ لذا أعددت أسئلتي جيدًا، وأنا أتخيل أنني سألتقي به، وأستمد إجاباته من كتابه الشهير: “بلدي”.
-ما العملُ؟ كلَّما راقَتْ لي فكرةٌ خَشِيتُ ألا تكتملَ فَأُعْرِضَ عنها.
إذا فكَّرْتَ فكأنكَ حَمَلْتَ. الطفلُ سيولَدُ حتمًا، عليكَ فقطْ أنْ تحمِلَهُ، كما تحملُ المرأةُ الجنينَ في أحشائِهَا، ثمَّ تَلِدُهُ بِعَرَقِ جبينِهَا وبالآلامِ.
لا تُخبِّئْ أفكارَكَ؛ إذا خبَّأْتَهَا فستَنْسى فيما بعدُ أينَ وضَعْتَهَا. أليستَ هذهِ حالَ البخيلِ؛ ينسى أحيانًا المخبأَ الذي وضعَ فيهِ نقودَهُ فيخَسَرَهَا؟
-لكنْ هلْ يجوزُ للمرءِ أنْ يحمِلَ أفكارَ الآخرينَ؟
يجبُ أنْ يكونَ للإنسانِ مَوْقِدُهُ يُشعِلُ فيهِ النارَ بنفسهِ. المُمتَطِي جوادَ غيرِهِ سينزِلُ عنهُ طالَ الوقتُ أمْ قَصُرْ، وسيسَلِّمُهُ لصاحبِهِ. لا تُسرِجُوا أفكارَ الآخرينَ، بلِ ابْتكرُوا لأنفسِكُمْ أفكارًا خاصةً.
-لكنَّنِي أشعرُ بالحرجِ أحيانًا؛ ذلكَ أنَّ بعضَ أفكارِي قدْ تَخُصُّ أمورًا صغيرةً جدًّا.
الفرقُ بينَ الإنسانِ العظيمِ والإنسانِ التافهِ أنَّ التفاهةَ تستطيعُ أن ترى الأشياءَ والظواهرَ الكبيرةَ وَحدَهَا، ولا تلاحظُ أيَّ شَيْءٍ قريبٍ منها، أمَّا الإنسانُ العظيمُ فيستطيعُ أن يرَى ما هوَ كبيرٌ وما هوَ صغيرٌ على حدٍّ سواءٍ، ويستطيعُ أنْ يرى حتى في أصغرِ الأشياءِ أكبرَهَا ويُبرِزَهُ للناسِ.
-وهلْ منْ حدٍّ للفكرةِ؟
لا تُمسِكْ حجرًا لا تستطيعُ رَفْعَهُ، ولا تَبلُغْ في سباحَتِكَ مكانًا لا تستطيعُ العودةَ منهُ، ولا تفتَحْ بابًا لا تستطيعُ بعدَ ذلكَ أنْ تَسُدَّهُ.
-لكنْ ما رأيُكَ في أنني أُكثِرُ منْ خِيَاراتِي حتى أَنْتَخِبَ أفضلَهَا؟
كلَّما اتسعَ المُمكِنُ عَسُرَ الاختيارُ.
-بعضُ أفكاري نِتاجُ عواطِفَ جَيَّاشَةٍ.. أتعتبر ذلك عيبًا؟
إنَّ العبقريةَ تتغذَّى بالعواطِفِ الإنسانيةِ القويةِ، منَ الْحبِّ والكُرْهِ؛ كالنارِ التي تتغذَّى بالحطبِ اليابِسِ، بِعِ الحقلَ والبيتَ وَافْقِدْ كلَّ ما تَملِكُ، لكنْ لا تَبِعِ الإنسانَ فيكَ ولا تَفْقِدْهُ.
-غيرَ أنِّي سمعْتُ أنَّهُ يجبُ أنْ يكونَ للقلبِ حُدُودُهُ وقَانونُهُ؟
القلبُ لا يَعرفُ قانونًا، أو على الصحيحِ إنَّ للقلبِ قوانِينَهُ التي لا تُنَاسِبُ الناسَ جميعًا.
وماذا إذا أصابني التردُّد؟
سَمِعَت منَ الْإمامِ شامل: مَنْ فَكَّرَ قَبْلَ المعركةِ في نَتَائِجِهَا فليسَ شُجَاعًا.
الحياةُ لها حدودٌ، إِنَّهَا قصيرةٌ. أمَّا الأحلامُ فلا تَنتَهِي، تستطيعُ بمفتاحٍ صغيرٍ أنْ تفتحَ صُندُوقًا كبيرًا، اِسمَعْ: النارُ في صَدرِكَ يَجِبُ أنْ تُحافِظَ عليها تمامًا كما تحافِظُ على نفسِكَ مِنَ النَّارِ الخارِجيةِ.
-قلتُ بفخرٍ: لا تُلْقِ هَمًّا، أنا أستطيعُ أنْ أُنْجزَ ما أُرِيدُ، أنا بِوُسعي أنْ..
قوةُ الثَّورِ لا تُعرَفُ بِخُوَارِهِ، بَلْ بِعَمَلِهْ.
(4)
في قصائده الأخيرة يعترف رسول حمزاتوف بذنوبه، ويسأل الله المغفرة، وقد أصابته في آخر حياته أمراض خطيرة جعلته طريح الفراش سنوات عديدة، وقد تحمَّلها بصبر، غير أنه لم يتمكَّن من تحمُّل غياب زوجته فاطمة التي كانت ملاذه في سنين الشيخوخة القاسية.
يرحل الحكيم في 3 نوفمبر 2003 عن عمر يناهز الثمانين عامًا، بعد أن كان يردِّد: «حياتي مُسوَّدة، كنت أتمنى لو أن لديَّ الوقت لتصحيحها»، ويُدفن إلى جانب زوجته في مقبرة إسلاميَّة صغيرة في سفح جبل تاركي تاوو.