(1)
أنا المدعو “فرانز جاجر شتاتر”، أحدثكم من العالم الآخر، بعد أن قضيت على أرضكم ثلاثة عقود، أو أزيد قليلاً.
أنا هنا حيث أنتظر وقاتلي المحاكمة التي تفصل بيننا، لست قلقًا أبدًا؛ فهنا يحظى الجميع بقاضٍ عادل، حتى وإن كانت الضحية شخصًا مجهولاً مثلي، ضعيفًا مثلي، لا حول له ولا قوة.
(2)
في أربعينيات القرن الماضي جرت حكايتي؛ كنت أعيش هادئ البال في ريف بلادي كفلاح نمساوي أصيل، أستمتع مع أمي وزوجتي وأطفالي بزرع الأرض ورعايتها، وبالحياة المشتركة بيننا.
لا أفهم في السياسة، ولا أريد أن أفهمها، لكن السياسة وصلت إلى بيتي وطرقت بابه، حين استلمت خطاب استدعاء للتدريب العسكري.
لم أتلق الأمر بارتياح، لكن أديت ما طلب مني، وعدت بعدها إلى داري وأرضي وعائلتي، لكن ما توقعته حدث؛ فالحرب العالمية الثانية تدور، وماكينة هتلر تبتلع الأرض والبشر، وخطاب التكليف بالالتحاق بالجيش يصلني.
ولأني في عرف الناس رجل متدين، فقد لجأت إلى قس كنيستي، قلت له: لا أريد أن أؤدي قسم الولاء لهتلر، ولا أن أشارك في معاركه.
انتابه الفزع، كان يتلفت يمنة ويسرة وكأن الجدران ستفتن علينا، نصحني بألا أخبر أحدا بما يدور في نفسي، وأن أقبل ما يطلبونه مني، وإلا اتهمت بـأنني خائن لوطني.
غادرته وفي نفسي أسئلة أكثر مما أتيت بها إليه.
ما قيمة صلواتنا وعباداتنا، إن حملنا أسلحتنا وقتلنا الآخرين وعذبناهم وشردناهم، وتعالينا عليهم؟
ما هي الأخلاق، إن لم نمتنع عن إلحاق الأذى بالآخرين؟
ماذا أقول لربي إن وقعت في الخطيئة؟
الخطيئة ليست الزنى وحده؛ الدم المراق بغير حق أيضا خطيئة، تهجير الناس خطيئة، كراهيتهم خطيئة.
قضيت ليالي طويلة أفكر في الأمر، أقلبه يمنة ويسرة، يتسلل الشيطان إلى نفسي الضعيفة، يخبرني: لكنك بذلك ستوقع الأذى بنفسك، وأنا أرده: لكل موقف ثمن، وأنا لا أريد أن أدفع ثمن الخطيئة.
(3)
أما أهلي، زوجتي وأمي وأطفالي، فقد كانوا بين نارين؛ أن يدعموني في اختياري، ويفقدوني، ويقضوا حياتهم دوني، أو يردُّوني فنحيا جميعًا معًا، لكن نحيا في ظل الخطيئة.
لقد اختاروا دعمي وهم يتحسرون علي، على عكس جيراني، الذين لفظوني جميعا، وآذوا أهلي، وحينها أدركت أن الوباء قد انتشر بين الناس، وأن مصل “الضمير” يحميني وأهلي من الوقوع فيما وقع فيه الآخرون.
لست ببطل، ولا أسعى إلى أي دور، ولا حتى معارضا، كل ما في الأمر أنني لا أريد أن أوالي ظالما فأقسم له بالولاء، ولا أريد أن أقتل بريئا، غير ذلك فلا يعنيني.
قلت: لا، وأنا في كامل وعي بثمنها، رفضت الجندية في الجيش النازي، اعتقلوني، خطفوني خطفا من أحضان عائلتي، وزجوا بي في زنازينهم.
وهناك تجرعت كل أنواع العذاب التي يمكن تصورها.
ومع كل لحظة تمر كان يقيني يزداد بصحة ما أقدمت عليه؛ فالذين يتقنون العذاب لا يعرفون الرحمة، وأنا من أهل الرحمة، ولا قبل لي بالعذاب وأهله، إذن فهي “لا”، ولن أتنازل عنها.
(4)
في السجن، زارني المحامي بعد جولات من التعذيب، جاءني فرحا؛ فقد وجد الخلاص، أخرج ورقة وقلما، وقال لي: اكتب وسيتم الإفراج عنك حالا.
سألته: ماذا أكتب؟
قال: اعتذارا عما فعلت، وتراجعا عنه.
رفضت بالطبع.
اندهش، قال لي: إنها مجرد ورقة، بضع سطور، ثم تخرج وتلتقط أنفاسك!
أخبرته: ونحن ماذا نكون إلا بضع أنفاس؟ كيف نزهقها في الحرام؟
لم يفهمني مطلقا، أين الحرام؟!
أعدت له للمرة الألف شرح رأيي، لن أوالي ظالما، لن أقتل الآخرين، إن لم يكن ذلك هو الحرام فما هو الحرام؟!
قال لي: هو مجرد توقيع، وتصبح حرا!
أجبته بكل بساطة: لكني حر، سقط القلم من يده على هذه الطاولة المهترئة، واهتز كرسيه المهتز، لم يفهم ما قصدت.
أنا حر لأني صاحب القرار، لا يملي علي أحد ماذا يجب أن أفعل، لا أركع لأحد مهما كان جبروته، لذلك فأنا حر، رغم هذه الأصفاد، ورغم هذه الزنازين، كنت مهذبا لم أشأ أن أخبره أنه ليس حرًّا.
يبدو أنه ظن أن الجنون من التعذيب أصابني، فقفز فجأة، وغادر زنزانتي.
(5)
لا أخفيكم سرا، قضيت أياما وليالي بعدها هي الأسوأ في حياتي؛ ماذا سيفعلون بي؟ وماذا ستفعل زوجتي؟ وماذا عن أمي العجوز، وعن أطفالي، وعن أرضي؟ ما مصير ذلك كله؟ هل الثمن يستحق؟
انتهت تساؤلاتي عند لحظة إعدامي.
(6)
تمر الأيام والسنون بعد رحيلي، ثم يأتي رجل أمريكي يدعى: “تيرنس ماليك”، عمل مع الصحافة المكتوبة، وقام بتدريس الفلسفة، قبل أن يتحول إلى المعهد السينمائي الأمريكي، ليكتب سيناريوهات ويُخرج العديد من الأفلام، تحمل كلها أبعادًا فلسفية، مهموم هو بالإنسان الذي يبحث عن النجاة في عالم مادي.
اختار حكايتي، أزال عن ذكراي كل الأتربة التي علقت بها، وقرر أن يخبر بها العالم، في فيلم طويل امتد لثلاث ساعات، أطلق عليه اسم: “الحياة الخفية”، ليكون واحدا من أجمل الأفلام السينمائية، بشهادة أهل هوليود.
حاول المخرج المسكين أن ينقل حكايتي بإخلاص، عبر لوحة فنية مذهلة، تتناغم فيها الرومانسية، والحيوية، والموسيقى، والفلسفة.
حسنًا فعلت “تيرنس ماليك” حين ركزت بشدة على فكرة المعنى الحقيقي للإيمان والدين، بين ما يجب أن يفعله المرء السوي، وبين ما يريد المجتمع منه أن يفعله، حين أوضحت الصراع المجنون بين خيارات الإنسان وتبريراته.
أشكرك، غير أني فعلت ما فعلت غير منتظر لتصفيق أو إشادة أو جائزة، أنا ببساطة قلت: لا؛ لأني حر، وصاحب ضمير حر؛ لأني سيد، ولست عبدا، هكذا الأمر ببساطة.
أترككم الآن إلى أن تشاهدوني بنفسكم يوم المحاكمة العادلة.