(1)
الحرب مثل العاصفة؛ تقع فتطيح بنا وبكل ما حولنا، لا تهز ممتلكاتنا المادية فحسب، وإنما حتى مفاهيمنا وأفكارنا ومواقفنا في الحياة، فيعيد الأذكياء منا التفكير فيها، وتهذيبها، والاستغناء عن بعضها، واستبدال أخرى بأفكار مختلفة، لم يتصوروا يومًا أنهم يمكن أن يعتنقوها.
ربما ليست كل حرب تفعل ذلك، إنما غزة فعلت، ليس بنا وحدنا في العالم العربي، وإنما في العالم أجمع، يدخل الناس في الإسلام، أو يقرأون عنه، يؤمن الناس بفلسطين التاريخية، أو يقرأون عنها.
(2)
إذا رمى عدو لك صواريخه على عدوك “الكيان” هل تبقى على الحياد، فتضيف قوة إلى الكيان، أم تؤيد عدوك، وهو الذي قتل من عائلتك وأصدقائك من قتل؟!
فريق يعتقد أن تأييده واجب في هذا الموقف بالذات، وفي هذا المكان بالذات، وأن التأييد هنا لا يعني -أبدًا وبأي حال من الأحوال- أن تمنحه شرف البطولة، ولا أن تمتدح كيانه وأفكاره، أنت تؤيده في غزة، ترفضه في اليمن، تدينه في سوريا.
وفريق يرى أن تأييده يمنحه فرصة غسل عاره هناك، ثم كيف لمن حاصر المدن وجوَّع أهلها هناك أن يدافع عن المدن المحاصرة هنا، كيف للذي قتل الأطفال هناك أن يدافع عن الأطفال هنا؟!
ذات مرة أقمت في رواندا مخيمًا للتدريب على صناعة الأفلام الوثائقية، وكانت فرصة للمتدربين أن يصنعوا بأنفسهم أفلامهم التي تمحورت حول تجربة هذا البلد، كيف عانى من مذابح بشعة، وكيف أنقذته المصالحات ليصبح دولة إفريقية نموذجية بعد ما فقد مليونًا من أبنائه ذبحًا.
قال لي الشباب المشاركون: ربما تكون تجربة رائعة، لكن من المستحيل تكرارها في بلادنا، فمن الذي يستطيع أن يغفر لمن اغتصب وقتل وشرَّد أهله؟!
وجهة نظر جديرة بالاحترام، ولأني لم أذق ما ذاقوه ليس بوسعي معارضتهم، لكن في المقابل ما هو الحل؟
يضطر المصاب أحيانًا أن يبتر عضوًا منه حتى يعيش، أنت مضطر لتقديم تضحية ما إذا لم يكن بوسعك تسديد ضربة قاصمة لعدوك.
(3)
تعوَّدنا على الشمولية، أي أن نحب ونوالي على طول الخط شخصًا ما، أو تنظيمًا أو جماعة، نعتقد أنه مثال كامل شامل، فيه كل خير، وفي خصومه كل شر.
فإذا وقع أمر ما واصلنا دعمنا لمن نؤمن به، حتى لو حدثتنا نفوسنا أنه هذه المرة على خطأ، وواصلنا رفضنا لمن نخاصمهم، حتى لو حدثتنا نفوسنا أنهم هذه المرة على حق.
في حرب غزة وجدت أناسًا على خلاف رئيسي مع الحركات الإسلامية، يؤيدون المقاومة في غزة، لقد تغلبوا على الفكرة الحمقاء القائلة: “تؤمن به كله، أو تكفر به كله”.
ليس خصومنا على باطل دائمًا، ولسنا على حق دائمًا، وفي كل موقف علينا أن نتجاوز انتماءاتنا ونحسم موقفنا بناء على قناعتنا ومبادئنا، وليس بناء على الولاءات.
لا يمكن أن تتعامل مع الأفكار كما تتعامل مع كرة القدم، تشجع فريقك مهما فاز أو انهزم، ثمة خطوط تماس كثيرة بيننا وبين خصومنا، يحتم علينا إخلاصنا أن نتعاون معهم بخصوصها.
(4)
أيام زمان، كان البسطاء من أبناء بلدي يقتطعون كل شهر مبلغًا صغيرًا جدًّا من أقواتهم، ويستمرون على هذا الحال وبصبر شديد لسنوات طويلة، فإذا حان الموعد السنوي وقد اكتمل المبلغ المطلوب، قصدوا الحج.
ما علاقة هذا بالحرب؟
أنا أخبرك.
لو زرت غزة قبل هذه المعركة، ومشيت في شوارعها، والتقيت أهلها، ما كنت تظن أبدًا -على كل حسن ظنك- أن لديهم كل هذا السلوك الإيماني الذي رأيناه في الحرب، هذا التسليم بقضاء الله، الرضا بما قسم، اليقين بعدله -عزَّ وجل.
لم يكن هذا ليمنع الألم الشديد باعتباره طبيعة إنسانية، لكن المرء -أيضًا- يختبر عند وقوع الكارثة، رد فعله الأول، ماذا يقول، وماذا يفعل؟
هذا المخزون من الإيمان، لم تكن لتلاحظه، وربما هم أنفسهم ما كان بوسعهم أن يتخيلوا أن يخزنون بداخلهم هذا الإيمان العميق.
التعبيرات التي صدرت منهم في لحظات الفجيعة لم تكن خارجة من فلاسفة، بل كانت بسيطة للغاية، لكنها عميقة للغاية، هزتنا هزًّا، بل هزت الغرباء الذين لا يؤمنون بما نؤمن به.
لم يولد أهل غزة اليوم، وما نشاهده منهم إنما هو حصيلة سنين طويلة من تراكم الإيمان والتجارب، ما تعلموه من دينهم، وما مارسوه من نضال بأشكال مختلفة.
لماذا يستخف المرء بالأفعال الصغيرة؟
أليست مخازنهم هي حصيلة أفعالهم الصغيرة، راكموها لسنوات، وعند الحاجة لجأوا إليها، أليست هي التي تنقذهم اليوم؟
السر كله في المخزن، تخيل أهل غزة ومخازنهم الإيمانية فارغة، ماذا كنا سنسمع منهم، أو نرى منهم؟
أنظر بحسرة إلى مخزني وأدعو لهم.