(1)
جرى هذا الحديث بيني وبين نفسي، احتدَّ النقاش، وأثيرت الأسئلة، وتباينت الإجابات، ووجدت من الضروري أن يخرج الحديث إلى العلن.
(2)
- تحت تهديد ظالم خارجي يسمى بـالمستعمر، أو ظالم داخلي في شكل حاكم، فإن الحل الوحيد للمواجهة هو العمل الجماعي، أي أن يجتمع الناس على قلب رجل واحد، يفكِّرون ويخطِّطون، ثم يباشرون إلى التحرك، وسوى ذلك فلا حلَّ له قيمة أو تأثير.
- صحيح، لكن منافذ العمل الجماعي مغلقة، فلا أحزاب، ولا تجمعات، ولا قيادة رشيدة، ولا زعماء يحملون أفكارهم وتصوراتهم ولديهم القدرة على القيادة، ومن ثَم فلا حلَّ إلا العمل الفردي.
- لماذا لا يكون الصمت خيارًا؟ السكون إلى حين تُتاح الحركة، بدلاً من حركة يدفع أصحابها ثمنًا باهظًا، ولا تُؤتي الثمار المرجوة.
- الصمت ليس سوى قوة دعم إضافية إلى الظالم، هو لا يريدك أن تؤيده، لا يحتاج إلى قوتك، لكن يحتاج إلى صمتك، يريد أن يعمل في هدوء، والعمل الفردي حتى وإن لم يكن ذا أثر عظيم، إلا إنه يزعج الظالم، يبطِّئ مسيرته المجرمة، يستهلك قوته، يستنزف تفكيره، وحتى يحافظ على صمتك، يُشعرك بالعجز، رسالته واضحة لك: أنت عاجز عن فعل أي شيء، فالزم الصمت ودعْنا نعمل ونُكمل جريمتنا، وهذا -للأسف- شعور أغلبنا، فنردد: نحن عاجزون، نحن عاجزون، ومن ثَم نصمت، ونلزم السكون.
- أعرف هذا، وأعرف أن هذا هو سؤال الفرد منَّا، لا ليس كل فرد، وإنما الفرد الذي لا يَقبل بالحياة ذليلاً، الفرد الذي يعرف معنى الحرية ومعنى الكرامة، الفرد الذي يُدرك أن صمته أشبه بالوقوف في الصف، في انتظار أن ينتهي عدوه ممن سبقه؛ ليفعل به ما فعله مع سابقه، بينما مَن وراءه يقف صامتًا في انتظار دوره هو كذلك، دائرة لا تنتهي.
(3) - شاب أمريكي في عنفوان شبابه، يحرق نفسه أمام سفارة الكيان، وآخر يعارض مؤسسته الداعمة لبرنامج تجسس يستخدمه العدو، يعرف أنه سيُفصل حتمًا من وظيفته لكنه يفعل، فنانون يفقدون مواقع تدر عليهم ثرواتهم الطائلة؛ لأنهم تضامنوا مع فلسطين، لماذا يلجأ أحرار الغرب إلى المبادرات الفردية، بينما نحن لا نفعل إلا ما رحم ربي؟!
- نعم هذا في الغرب، والغرب على عيوبه لديه مساحة أفضل بكثير من المساحات التي لدينا، فقدان المرء لوظيفته تبدو أهون كثيرًا من السجن والاعتقال والتعذيب، ليس للفرد فحسب، ولكن لعائلته، وربما لأصدقائه.
- لكن في كل الأحوال ما جدوى ذلك؟
- نفس السؤال الذي يوجِّهه المرجفون كلما أقدم أحدنا على أي فعل بسيط فيقول: وهل ذلك يحرر فلسطين؟
- أظن أن الفرد إنما يقوم بما يقوم به من أجل نفسه أولاً، قبل أن يكون نصرة لآخرين، يعذر نفسه أمام ربه، فيقول له -تعالى- يوم الحساب: فعلتُ ما بوسعي. نعم يفعل ذلك من أجل نفسه؛ لعله يستطيع أن ينظر إلى صورته في المرآة ولا يخجل، لعله يستطيع أن يحدِّق في عيني امرأته ويقول لها: أنا لها، سأبذل ما في وسعي إن وقع الأذى، يفعل ما يفعل حتى لا يموت من العار والشعور بالخيانة والخذلان.
- لا جدال في أن كل واحد منَّا يرغب في عملٍ ما لكنه ربما لا يستطيع.
- حتى هذا القول مشكوك فيه، الذي لا يستطيع الصبر على المقاطعة، كيف يدَّعي أنه حزين لأهل غزة ويرغب في مساعدتهم، أليس هذا ضربًا من النفاق؟
ثم لماذا تريد إجابات جاهزة عن سؤالك: “ماذا بوسعي أن أفعل”؟
والإجابة واضحة: “افعل ما في وسعك”.
عندما تعتقد أن السفر إلى الخارج والعمل هناك يحل كل مشاكلك المالية ويحقق لك أحلامك، فإنك لن تقف ساكنًا، ستبذل كل ما في طاقتك للسفر، سوف تتحايل على الأمر بكل الطرق. فلماذا في حالة غزة تريد أن يُقدَّم لك الحل جاهزًا على طبق من فضة؟!
ابحث وفكر، اجعله همَّك الذي لا يجعلك تنام ليلاً، وتشقى به نهارًا إلى أن تجد الحل.
(4)
أحيانًا يتحتم عليك أن تبدأ وأنت لا تستطيع أن تتبين ملامح الطريق، لكنك تختار أن تبدأ؛ لأنه أخف الضررين من أن تقف ساكنًا، تبدأ ثم رويدًا رويدًا يتبين لك الطريق، هكذا -أيضًا- العمل الفردي، تؤدي ما يمكن أن تؤديه، وأنت لا تعرف ما جدواه، وما أثره، ثم شيئًا فشيئًا، يبدأ أصحاب المبادرات الفردية في التجمع، أو في إحداث فرق، أو في إزعاج المراد إزعاجه، فيبدأ هو كذلك في حساب خطواته الإجرامية، والتقليل منها، تحسبًا لهذه الأفعال “الفردية”؛ خشية أن ينفجر المجتمع.
العمل الفردي -مهما صغُر أو قل أثره- هو أفضل وأشرف من السكون.