(1)
عزيزي طارق:
تسألني عن رأيي فيما يجري، وأنا أجيبك بصراحة.
لقد أوقعتْنا المقاومة في ورطة، ركلتْنا مِن “الكنبة” التي كنَّا نجلس عليها لنشاهد ما يجري، إلى حيث ما يجري، أنا -كما تعرفني- شخص بسيط للغاية، ورغم ذلك بتُّ طرفًا في المعركة، إما أن أنتصر أو أنتهي، لا خيار آخر لي، وتلك -والله- هي الورطة بعينها، ودعني أشرح لك الأمر.
(2)
في بداية الأحداث، تصرَّفت كما يتصرَّف الجميع، سعيت أن أبذل ما في وسعي؛ نصرة لما يزيد عن مليونين من البشر، محاصرين على الأرض، تدكُّهم الطائرات الوحْشية من السماء.
ثم وجدتني في حالٍ وصفه الربُّ في قرآنه مِن قبل: ﴿إِذْ جَاءُوكُم مِّنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ [الأحزاب: 10].
لم يصلني العدو، لكن أطاحت بي عاصفةٌ من الأسئلة، مِن فوقي ومِن أسفل مني، زاغ بصري، وبلغ قلبي الحنجرة.
أين الله -تعالى- من هذا كله؟
لماذا رضي بأن يقع للمؤمنين به ما وقع؟
لماذا لا يدافع عنهم؟
لماذا لا ينصرهم؟
ما الحكمة مِن وراء ذلك كله؟
لقد شعرت أن إيماني يُختبر مرة أخرى؛ الأولى: كانت نظريًّا قبل عقود، وحينها أعلنت إيماني، وبعدها وعلى مر السنين ردَّدت كل عبارات الورع والتقوى، والتسليم لله -تعالى، والرضا بحكمه، فهل أرسب اليوم في الامتحان “العملي”؟
تخيل أنك تكتشف في سن متأخرة أنك كنت منافقًا، وأن إيمانك كان طبقة رقيقة ربما تغطي قلبك، لكن لم تنفذ إليه.
لقد وجدت نفسي فجأة حائرًا، أبحث عن إجابات لأسئلتي، وتفسيرًا لما يجري، في الحقيقة قد وجدت نفسي في معركةٍ شخصية جدًّا، تبعد عن غزة آلاف الكيلومترات.
(3)
عزيزي طارق:
لقد كنت -شأن الآخرين- غاضبًا جدًّا لما يجري، وهذا طبيعي، إلى أن تذكَّرت أن الدنيا ليست محل العدل والمساواة، ينتصر فيها المظلوم، وينال الجاني عقابه، وينعم الصالحون بها.
هذه ليست صفات دار الدنيا، هذه صفات دار الآخرة، صفات الجنة، الدنيا ليست محل الجزاء، وإلا لما كانت هناك القيامة، والحساب، والجنة، والنار.
ورغم ذلك فإن عاصفة الأسئلة لا تتوقف:
هل أنا -فعلاً- راضٍ بحكم الله وقَدَره؟
هل أنا متعلِّق -حقًّا- بالله، لا أرى نجاة دونه -تعالى؟
هل واثق من نصره على الشاكلة التي يريدها -عز وجل- وليس على الشاكلة التي أحددها أنا، وفي الوقت الذي يحدِّده هو -القدير- وليس أنا؟
كما ذكرتُ لك: إنني أشعر أن إيماني يُختبر، وقد كنت أعتقد أنني عبرت هذه المرحلة!
صدِّقني، كل أهل غزة ناجون، المشكلة فينا نحن.
لذلك فإن المعركة شخصية جدًّا.
(4)
أقلِّب الفيديوهات على المنصات، تخرج لي هذه الفتاة الأمريكية تخبرني أنها تساءلت عن سبب صمود أهل غزة، فقيل لها: تجدين الإجابة في القرآن!
يا للهول، تخيل يا طارق، هكذا بكل بساطة، الإجابة في القرآن، تُبادر هي إلى قراءة القرآن لأول مرة في حياتها؛ بحثًا عن الإجابات، وتستعرض ما وجدته وهي غير مسلمة، وأنا هنا صريع الأسئلة.
بربك ماذا كنا نفعل نحن طيلة حياتنا؟
ألم نكن نقرأ القرآن عشرات المرات؟
لماذا نهتز الآن؟
لماذا نتساءل: متى نصر الله؟
لماذا يتملَّكنا هذا الشك؟
عزيزي طارق:
أتعرف ما هو أسوأ سيناريو؟
أن ينجوَ غير المؤمنين ونرسب نحن!
أن يبحث غير المؤمنين عن الإجابة في كتابنا فيجدونها فيؤمنون به، فيما نحن متشكِّكون من كل شيء، غاضبون من كل شيء، ناقمون على كل شيء، لا نفهم ماذا يجري، ولا إلى أين ستسير الأمور!
يا لها من مفارقة، ينجو هؤلاء الذين لم يكونوا مؤمنين، ونرسب نحن الذين طالما ردَّدنا آيات الإيمان، لذلك فالمعركة شخصية جدًّا.
(5)
لماذا غابت عنَّا مقاصد سورة الأحزاب، القوى الكبرى بمفاهيمهم حينها يجتمعون حول القلة المؤمنة، والكل يُختبر، وكأن الغزوة والسورة للتمييز بين المؤمنين والمنافقين.
ربما ما يواسيني أن الحزن عمَّ المؤمنين حينها، فلا ضير أن يعُمَّنا، ولذلك جاءت آيات هذه السورة تربت على قلوبهم، اقرأْها فإني أقرؤها كأني أقرؤها أول مرة.
أتعرف؟
لقد دعتْني غزة إلى معاودة قراءة كل ما كنت أدَّعي أنني قرأته وتعلَّمته، فإذا بالأمور تبدو لي وكأني أعرفها لأول مرة.
“كنَّا إذا حمي الوطيس احتمينا برسول الله”.
أتعرف يا صديقي: إني أشعر أن التاريخ سيكتب يومًا الآتي:
ذات مرة جاء قوم بعد رسول الله بما يزيد عن أربعة عشر قرنًا، فاحتموا به ونجوا.