(1)
ماذا إذا شخص سبقك إلى المكان الذي تنوي الذهاب إليه، ثم عاد من هناك محملاً بالمعرفة والخبرات؟
أليس من الأفضل لك أن تسأله أن يمنحك شيئًا من كنزه، يوفِّر عليك به الكثير من الجهد ويختصر عليك الطريق؟
تمامًا هذه هي وظيفة النصيحة.
فأي ذكاء يدَّعيه المرء إن وجد بين يديه دليلاً يرسم له خطواته المطلوبة بدقة، ثم يتجاهله؟!
مثل هذا الذي قرر أن يقطع غابة، وقد تحاشى أن يقرأ خريطة تجنبه أخطار الطريق وعثراته، ويصر أن يكتشف دربه بنفسه، فإما أن ينجو، وإما أن يصيبه الأذى.
الحقيقة ليست مشكلة أن يقع الضرر؛ فالحياة -في حد ذاتها- مغامرة كبرى، لكن المشكلة أن يهلك دون مقابل يستحق، خصوصًا وقد كان لديه فرصة لتجنب الخسارات.
(2)
في المقابل فإن هناك لذة، لا تعادلها لذة، في أن تخوض تجربتك الخاصة، بطريقتك أنت، بذوقك أنت، ببصمتك الخاصة؛ لتحصل -في النهاية- على مرادك، كأنه صناعة يدوية، وليس جاهزًا على طبق من فضة، وقد صنعه غيرك لك.
يقولون: إن لذة الرحلة في الطريق وليس في الوصول.
اللذة تقبع فيما تواجهه في طريقك من عثرات تتغلب عليها، فتتعرف على نقاط ضعفك ونقاط قوتك، وفيما تشاهده فيزيدك معرفة، وفيمن تلتقيهم فيحكون لك حكاياتهم بما تحمله من عبرات، وما تشعر به بأن هذا الكون أكبر من بيتك وشارعك وحيِّك الذي تسكنه، وأن الإنسانية تجمعنا.
كأن الطريق البريَّ الذي تقطعه أفضل من طائرة تستقلها، تجلس في مقعدك الوثير، وقد تنام إلى أن تهبط في المكان الذي ترغب في الوصول إليه.
ومن ثَم فإن معاناتك وعثراتك وخساراتك وانتصاراتك في الطريق لن تذهب هباء، بل إنها تصنع خبرتك، التي ستخوض بها رحلة أخرى لك في الحياة.
وهكذا دواليك، وما المرء إلا خبرات متراكمة، ونتفاوت -نحن البشر- فيما بيننا، بما لكلٍّ منا من خبرة.
(3)
هل من حل وسط يجمع هذين النقيضين؟
أننصت للنصيحة أم نخوض تجربتنا الخاصة؟
أجيبك وأعطيك مثلاً.
عندما ترغب في أن تخوض في عالم الكتابة، فإنك ستبحث عن الكتب والمقالات العديدة التي تورد نصائح كبار الكتَّاب في العالم الذين سبقوك في الكتابة، وحفروا مكاناتهم بجدارة في التاريخ.
سيخبرونك كيف يجب أن تبدأ قصتك، وكيف تخوض فيها، وكيف تنهيها، لكنك في النهاية ستكتب قصتك بأسلوبك أنت، بطريقتك أنت، بمذاقك أنت، بحسك وشعورك وانفعالاتك أنت.
وهذه هي فكرة التدريب، فأنت تستمع إلى نصائح شخص سبقك في هذا المجال، في التصوير، في الرسم، في عالم رجال الأعمال، تأخذ منه أقصى ما بوسعك أن تأخذه، لكنك في النهاية ستصنع تجربتك الخاصة.
هذه هي المعادلة.
لا ترفض النصيحة، بل احرص عليها جيدًا، أنصِت لها باهتمام، واعلم أنها ليست بقوانين نافذة، أو حقائق علمية دامغة، هي ليست أكثر من خبرة من سبقوك، وهي قابلة للصواب وللخطأ، ثم خذ منها ما يروق لك، وخض تجربتك أنت.
(4)
سيتكرر الأمر في حياتك كثيرًا، تخرج من تجربة لتخوض أخرى، بعض التجارب ستكون من اختيارك، وبعضها الآخر ستفرض عليك، ستنتصر أحيانًا، وستهزم أخرى، كإنسان طبيعي يعيش في هذه الدنيا، وستمر سنون طويلة لتكتشف أنه بات لديك وفرة من التجارب، وخبرات متراكمة، تتمنى معها لو عدت شابًّا واستفدت منها.
وستجد أنك انتقلت من مربع إلى نقيضه، فبعد أن كنت ممتعضًا من أن تسمع نصائح الآخرين، بت مندهشًا من هذا الجيل الجديد الذي لا ينصت لنصائحك القيمة، ولا يسمع خلاصة تجاربك في الحياة.
غير أنك ستصر على أن تموت فارغًا، أي لا تصحب معك في قبرك كنوزك المعرفية، ستكون حريصًا على توزيعها على الآخرين الذين ما زالت الحياة ممتدة أمامهم، وستجتهد لتنقل للشباب خلاصة ما وصلت إليه، وتترك لهم أن يأخذوا بها كلها، أو بعضها، أو يدعوها كلية.
سيكون إصرارك منبعه امتنانك لله -عز وجل- الذي أهداك كل هذه الخبرات في الدنيا، وهو امتنان يستوجب أن تدفع ثمنه، وهو ما يمكن أن نطلق عليه “زكاة المعرفة”، أن تزكي عما منحه الله لك من علوم ومعارف وخبرات، ربما لم يمنحها لآخرين.
وسيتبقى على الشباب ألا يهدروا فرصة أهداهم الله إياها يمكن أن يستفيدوا منها في حياتهم.