(1)
أما بعد؛
فقد بلغني أنك قدَّمت طلبًا للتقاعد، وأنك لا تطلب مكافأة ولا تكريمًا، وإنما تسأل فقط أن ندعك وشأنك.
يؤسفني إبلاغك أن طلبك مرفوض.
(2)
خطر لي أن أخبرك بأمر ربما تراه طريفًا.
أنا أستعيذ بالله من الشيطان، لكني أراقب هذا الشيطان جيدًا، أدرس خطواته، وسياساته.
يا أخي،
هذا المخلوق لديه قوة إرادة غير عادية؛ إنه يصر ويصر عليك، يأتيك من كل جانب، ويغريك بكل ما هو ممكن أو محتمل، ولا ينهزم إذا صددته، لا يتوقف أبدًا، بل يكرر المحاولة، وحتى إذا قاومت الانصياع له، يعود فيغريك بما هو أقل مما عرضه عليك ورفضته، إنه يحاول أن يأخذ منك أي شيء، أن يضلك في صغيرة إن لم يضلك في كبيرة، أن يحقق أي انتصار، ولو كان بسيطًا.
أتعرف..
كل الظالمين مثله.
لديهم تصميم على بلوغ الحرام الذي يقصدونه، لا تلين عزائمهم، يتعاونون فيما بينهم، خططهم بعيدة المدى، لا يتوقفون أبدًا، ولا تغريهم الانتصارات البسيطة، هم يسعون إلى فساد أكبر.
هل فكر المظلومون في هذا الأمر من قبل؟
لا أظن..
(3)
عندما أخبروني أنك كفرت بالثورة، وقررت الانسحاب من الشأن العام، والابتعاد عن كل ما له علاقة بالسياسة، وحجتك في ذلك أن الناس قد انصرفوا عن الأمر، اندهشت؛ فأنا أتذكر أنك حين بدأت كان الناس قلة، ورغم ذلك بدأت، فلماذا تتوقف الآن بدعوى الناس؟
ثم هب أن الناس -فعلاً- انصرفوا عن الثورة وعن السياسة، فمنذ متى وعدد الناس عندك دليل على صحة الفكرة؟
وحتى إذا انصرف الناس عن الثورة ردهم أنت.
وحتى إذا انصرف الناس عن السياسة ردهم أنت.
لا ينصرف المخلصون أبدًا ولا يتوقفون، إنما يواجهون -بشجاعة- ما أقدموا عليه، يعترفون بأخطائهم، ويغيرون أساليبهم وطرائقهم الساعية للتغيير.
نعم أخطأنا حين كنا نعتقد أن التغيير يمكن أن يكون بسرعة، هكذا في غمضة عين، أن يثور الناس لعدة أسابيع، يخرجون في الشوارع، يبيتون في الميادين فيسقط نظام ديكتاتوري عتيق، هكذا بكل بساطة.
أخطأنا أننا كنا ننتظر من أوروبا الديمقراطية أن تقف معنا، وأن ما حدث في أوروبا الشرقية -عندما وافتها رياح التغيير، فأسقطت أنظمة عاتية، وبنت أنظمة جديدة بكل سلاسة وهدوء- سوف يتكرر عندنا، ونسينا أن أوروبا الديمقراطية هي الداعم الأول لكل ديكتاتوريات المنطقة.
أخطأنا في أننا أولينا قيادات تدعي المعارضة ثقة لا تستحقها.
أخطأنا في أننا توقفنا حين سقط الرأس، دفناه، فإذا بألف رأس ينمو.
هل تريدني أن أقص عليك مزيدًا من الأخطاء التي وقع الثوار فيها؟
الفشل -يا صديقي- ليس أننا لم نحقق ما نريد، لكن الفشل الحقيقي ألا نستمر في المحاولة، أن نستسلم، أن نقول: “مفيش فايدة”، أن ندعي أن الأمر مستحيل.
بالمناسبة، هؤلاء الذين نريد تغييرهم، أذكياء جدًّا، إنهم لا يقولون لنا أبدًا: إن أفكارنا خاطئة، كيف ونحن نتحدث عن العدل والمساواة والحرية؟
على العكس يقولون لنا: إن أفكارنا رائعة، لكنها مستحيلة، ونحن -رويدًا رويدًا- نصدق أنها مستحيلة، ونصدق أن فعلاً “مفيش فايدة”، ونستشهد بأي حادثة عابرة لنؤكد أن الأمر انتهى.
بل ربما نتبرأ مما جرى، نلوم أنفسنا ونسألها: كيف فعلنا ذلك؟ كيف ارتكبنا هذا الجرم؟ فنخجل من ذكر التحرير، من يناير وخيمه، والعيش والملح مع آخرين لا ينتمون إلى ما ننتمي إليه، وقد اكتشفنا جميعًا أن خيمة صغيرة قادرة على جمعنا رغم اختلافاتنا، فما بالك بوطن؟
(4)
اسمع..
أنا من العازفين عن السياسة إذا كان المقصود بها الدخول في معارك جانبية مع نظم بائدة، والتورط في قضايا جانبية، أو إصدار بيانات الشجب والإدانة، وتبادل السباب مع هذا وذاك، أنا في هذه الحالة -مثلك- عازف عن السياسة.
أما إذا كان المقصود بالسياسة هو الاهتمام بالشأن العام، والبحث عن مخارج، والتنسيق مع الآخرين، والتفكير في خطوط تماس بيننا كمختلفين فكريًّا يمكن أن تجمعنا، ودراسة تجربتنا وتجارب الآخرين، وأن نعمل على فضحهم أمام العالم، فأنا أدعوك أن تعود.
وإذا كانت الثورة محصورة في خروج الناس إلى الشارع، فأنا -مثلك- ضد الفكرة، لكن الثورة أكبر وأنضج من هتافات الحناجر.
كل فعل مقاوم هو ثورة.
كل شكل من أشكال الرفض هو ثورة.
كل محاولة للوعي هو ثورة.
كل جهد لتوحيد الصفوف هو ثورة.
كل اهتمام بما يجري في انتظار اللحظة المناسبة لقرار مناسب هو ثورة.
كل محاولة لإيجاد بدائل ووسائل جديدة للمقاومة هو عين الثورة.
(5)
يا صديقي الراغب في التقاعد..
يدرك الظالم أن القضاء عليك صعب، لكن يأسك أسهل، كل ما هو مطلوب منك أن تقول: “مفيش فايدة”، وبذلك يغلق أي باب في المستقبل للتغيير؛ لأن التغيير لا يحدث فجأة، لا يسقط علينا هكذا من السماء.
وأنت خير من يعرف أن الديكتاتور مثل الضرس، لا يمكن خلعه هكذا ببساطة، بل في حاجة إلى محاولات عدة، تهزه من هنا، وتهزه من هناك، تطرق عليه من هنا، وتكرر من هناك، تنجح في محاولة، وتفشل في أخرى.
يدرك الثائر أن الأمر في حاجة إلى الصبر.
وأن النصر في أحيان كثيرة قد لا يتحقق في حياته.
(6)
أتعرف..
ليس من باب المجاملة، ولكن من باب الحقيقة، أنت أفضل مني في أمور كثيرة، غير أني أفضل منك في أمر آخر، هو أن حلمي في العشرينيات ما زال كما هو، صحيح أن بعض مفاهيمي قد تغيرت، بعض وسائلي قد تغيرت، لكن حلمي ما زال هو كما كان، وما زالت قناعتي أن التاريخ لن يرحم المتقاعدين تمامًا كما أنه لن يرحم الطغاة.
صديقي العزيز،
“قد يقتلك نورك”.
قلت لك ذلك مرة، ابتسمتَ وسألتَ: ماذا أقصد؟
وأجيبك أنا: إن الوعي والضمير هما النور، وإذا امتلكتهما، فإنك لن تتوقف أبدًا عن المعركة، وفي النهاية قد يؤدي ذلك إلى مقتلك، ولو فكرت في ذلك قليلاً لقلت: وما الضرر في ذلك؟ وهل يمكن أن يموت المرء لحظة واحدة قبل أن ينتهي عمره المقدر؟
قلت لك: إننا ميتون ميتون، فليقتلنا نورنا أفضل من أن تقتلنا خيانتنا وجهلنا وتنازلنا، بل إن الهلاك يقع عندما نصمت، فإذ ذاك نحن نخسر أنفسنا.
نعم..
حين نعلن تقاعدنا، إنما ندير ظهورنا لمن هم قيد السجون، ولمن رحل، وحينها نخسر أنفسنا.
والسلام ختام.