(1)
نحن في الشهر السادس لعام 1917، وها أنا أكمل الثامنة عشرة، جل أصدقائي ينضمون إلى القتال، جند في جيش الإمبراطورية الألمانية، أشاركهم متحمسا تجربتهم في أول حرب عالمية، وحيث الوعد بأنها الحرب التي ستنهي كل الحروب.
يتم نقلنا إلى الجبهة الغربية، والحرب هناك بيننا نحن الألمان، وبين الفرنسيين، من أجل كسب مساحة صغيرة من الأرض، تسترد من الطرف الآخر بعد فترة وجيزة، فيبقى “كل شيء هادئ على الجبهة الغربية”
(2)
أنسى ما أنسى، إلا اليوم الذي قتلت فيه إنسانا وجها لوجه، ففي نهاية الشهر السابع، تَشتعل جبهتنا الغربية، بتسارُع غير مُعتاد، وعلى مدى أسبوعين، يقصفنا ثلاثة آلاف مدفع بأربعة ملايين ونصف مليون قذيفة، ونحن صامدون.
يصبح الليل نهارا بفعل الصواريخ التي تنير سماءه، هدير الدبابات لا يتوقف، القنابل تسقط على الخنادق كالمطر، الهواء محشو بالصراخ والصفير، الأشلاء تتطاير ومثلها الشظايا في كل مكان.
فجأةً أسمع في خندقي وقع أقدام، أَخرج الخنجر فأطعنه، يصرخ بشدة، لكنّني أواصل الطعن، حتى أصوب إليه في النهاية ضربة قوية فيهوى على الأرض، لقدْ طبقت مبدأ الحرب الدائم: “اقتل أو تقتل”
لكن الرجلَ لم يمت، فهو في النزع الأخير، يحدق إلي بعينينِ مفعمتين بالرعب والهلع، الجثة ساكنة، لكن رغبة الفرار التي تنطق بها عيناه، يخيل إلي أنها ستحمل الجثة حملا وتفر بها ذعرا من الموت، أي مني.
أقول له في نفسي، لمْ أُرد قتلك، لو أنك تقفز مجددا إلى هنا فلن أفعلها ثانية، كل ما في الأمر أني كنت أفكر بقنبلتك اليدوية وأسلحتك، الآن أرى زوجتك ووجهك وما يجمعنا معا، سامحني يا رفيقي! إذا رمينا هذه الأسلحة وخلعنا هذا اللباس العسكري، لأمكنك أن تكون أخي.
(3)
وكأنه انتقام إلهي، أصاب لاحقا بشظية قذيفة في ساقي اليسرى وذراعي اليمنى ورقبتي، بمعجزة ينجح المسعفون في إنقاذي بعد أن رأيت الموت بعيني، يقومون بإجلائي إلى مستشفى عسكري بالداخل.
المشهد يكاد يكون أكثر رعبا من جبهات القتال، عنابر مملؤة بالمصابين، أناتهم واهنة ومؤلمة، أطباء وممرضات يسابقون الموت، ينجحون في إنقاذ ساقي من البتر، لكن الألم ما يزال شديداً.
أغادر مشفاي بعد عدة شهور، تحسنت جراح جسدي، وجراح روحي لا تبرأ، تنتهي الحرب، أحاول تعويض ما فاتني في الدنيا، لكن الحرب تسيطر علي، لماذا وصلنا إلى هذا الحد من الغباء حتى نقتل بعضنا بهذه الصورة.
مثلي مثل الذين عادوا من المعارك، يحاولون وبنمط من سعار عيش متوحش أن يعوضوا ما خسروه في السنين الأربع من الحرب، هؤلاء الناس لا يملكون شيئا الآن، هذا الجيل بأكمله دحر وهزم في الحرب، حتى الذين نجوا من قذائفه.
أتقلب في وظائف عدة، حتى أعمل محررا، فتوقظ الوظيفة في نفسي حمى الكتابة التي بدأتها وعمري لا يتجاوز ستة عشر عاما، مقالات وقصائد ورواية كنت قد بدأتها قبل الحرب.
أذهب ضمن مهامي الوظيفية لتغطية نزال للملاكم ماكس شميلينغ، أسمع أحدهم يصرخ “هيا يا ماكس، إنه يترنح، لكمة أخرى وسينتهي أمره”، أتمعن وجه الملاكم المترنح، تقفز في ذاكرتي عيون ذلك الفرنسي الذي قتلته، أعود إلى المنزل وقد اتخذت قراري، بكتابة رواية أسجل فيها كل ما رأيت في الحرب.
(4)
أعيش الجحيم مرة أخرى، أتذكر على لسان بطل حكايتي ما عشته في الحرب، أفرغ من الكتابة، أبدأ محاولاتي لطباعتها، يرفض رئيس التحرير ذلك، متعللا بأن الناس بعد الحرب لا تريد الحديث عنها، وبعد جدال بين أصحاب الأمر يتقرر نشرها في حلقات بجريدة “فويس”.
وبالفعل وفي العاشر من أكتوبر تشرين الثاني عام 1928 تنشر الحلقة الأولى من روايتي، وما أن تصدر الحلقة الثانية حتى يتجاوز توزيع الصحيفة مئة ألف نسخة، فيقرر المسؤولون وقف النشر وطبع الرواية كاملة.
تصل مبيعات روايتي بعد عدة سنوات ما يزيد عن ثلاثين مليون نسخة، وتكون أول رواية تطبع على طريقة برايل لفاقدي البصر، وتتحول إلى فيلم سينمائي يحصد جوائزه في هوليود.
تغضب ألمانيا الهتلرية، وتمنع عرض الفيلم، وتمنع الرواية من التداول، وتسحب الجنسية مني، وتقتل شقيقتي، وأصبح هدفا للعنصريين، فأقرر السافر إلى سويسرا، أيتابع من هناك ما حدث في أحد ميادين برلين، حيث حشدت جموع من الشباب، ليقوموا بإضرام النيران في الكتب الممنوعة التي يعتقدون أنها ضد نازيتهم، وبالتأكيد فإن روايتي من ضمنها.
يزداد تشبثي بموقفي، وإصراري على إعلان الحرب على الحروب، كارها تجربتي في الحرب العالمية الأولى، التي جمع لها أكثر من سبعين مليون عسكري، لقى فيها أكثر من تسعة ملايين مقاتل، وسبعة ملايين مدني مصرعهم، فضلا عشرات الملايين الذين ماتوا من جراء انتشار الأوبئة.
تمر الأيام والسنون، ويتغير كل شيء، وتظل روايتي جاذبة لمحاربي الحروب، ويعاد انتاجها كفيلم سينمائي، يحصد بدوره العديد من جوائز الأوسكار.
(5)
نسيت أن أخبركم، أنا إيريك ريمارك، صاحب رواية “كل شيء هادئ على الجبهة الغربية”،
في 25 من الشهر التاسع ستكتب الصحف إنني توفيت عن عمر يناهز 72 عاما، وأن روايتي “كل شيء هادئ على الجبهة الغربية”، هي الرواية الألمانية الأكثر مبيعا، وأنه تم تحويلها إلى فيلم سينمائي ثلاث مرات، عام 1930، وعام 1979، وأخيرا عام 2022، لينال صانعوها العديد من جوائز الأوسكار.
وستكون فرصة لتذكر الصحف قراءها بإني ولدت في منتصف عام 1898، لعائلة من الطبقة العاملة، في مدينة أوسنابروك الألمانية، والدي كان عامل تجليد كتب، ولأن والدتي كانت تعاني من السل، قرر جدي أن يستضيفني، وهو الرجل المختلف عن والدي، المحب للمغامرات، فأحببته، وأحببت المغامرات، وراويتي واحدة منها.
تلك الرواية التي كنت بطلها، بطلها الذي عاش بعد الحرب، لكنه مات في الرواية، ربما أردت أن أقول أن الحرب تقتل الجميع، حتى الذين يعيشون بعدها.