(1)
إن كنت لا تعرف“نيريتفا” فقد فاتك الكثير، واحد من أجمل الأنهار في أوروبا، متميز عنها بلونه؛ فهو خليط من الأزرق والأخضر، صحيح أنه يمر بمدينة موستار ويقسمها إلى شطر شرقي وآخر غربي، لكن لا بأس فإن الجسر العثماني يربط بينهما.
أما الشطر الشرقي فتعيش به أغلبية من البوشناق المسلمين، وأما الغربي فتسكنه أغلبية كرواتية كاثوليكية، وأقلية صربية مع أقليات أخرى.
موستار أيضًا رائعة الجمال، من مدن أوروبا العتيقة، وتقع في جنوب دولة البوسنة والهرسك، التي هي بدورها رائعة الجمال، لا يختلف على ذلك أحد، لكن الحرب لها رأي آخر.
(2)
ثمة عائلة صربية، من والدين وابنين، هما زوران وغوران، تسكن الشطر الشرقي مع المسلمين، ولا بأس في ذلك؛ فالناس هنا تتعايش بشكل رائع، خصوصًا مع شعارات تيتو المرفوعة: الإخاء والمحبة.
ولكن ولأن الحرب -كما قلت- لا تعترف بذلك كله فقد اندلعت في البلاد في أبريل عام 1992، وهو الأمر الذي صدم الشابين كما صدم والديهما، لكن الجميع كان يأمل أن الأمر لا يعدو أن فئة صربية متطرفة خرجت لتحقيق مغانم لها، وما تلبث أن يتم مواجهتها وتعود إلى رشدها، لكن ذلك لم يحدث.
استمرت الحرب، واتسع لهيبها، وازدادت قسوتها، وبدأ يساور الأخَوَان ومَن على شاكلتهما، شعور بالقلق، تحوَّل مع الوقت إلى خوف من احتمال أن تزداد الأمور سوءًا، وهو ما حدث متخطيًا كل ما كان يجول بخاطرهما.
(3)
عشية الأول من يونيو حزيران لعام 1992، يدخل والدهما إلى البيت، تعلو وجهه علامات القلق والتجهم، يطلب منهما التأكد من غلق أبواب البيت جيدًا، يطيعه الابنان رغم اندهاشهما، فهذا مخالف لعادة أهل الأحياء الشعبية في البوسنة؛ فهم لا يغلقون أبواب البيت الخارجية؛ حتى لا يُمنع أحد من الجيران، يستغيث أو يطلب المساعدة.
يجلس الابنان والأم، وقد انتقلت إلى وجوههم علامات القلق، التي كست وجه الأب، الذي بدأ في الكلام، وليته ما تكلم!
يخبرهم أنه قرر أن ينتقل معهم إلى الشطر الآخر من النهر حيث يعيش الصرب، طالبًا من ابنيه الانضمام إلى القوات الصربية؛ لأداء الواجب المقدس في محاربة الأعداء، وتطهير موستار من غير الصرب، ينزل كلامه عليهم كالصاعقة، موستار ليست بها أعداء، الجميع هنا أصدقاء.
يرفض الأخوان -بشكل قاطع- طلب الوالد، لم يكن بوسعهما أن يتصورا إمكانية حمل البنادق لقتل شركاء الدراسة والحياة، والمشاركة في جريمة تدمير موستار الجميلة.
تنحاز الأم للولدين، يغضب الوالد ويغادر وحده، منضمًّا إلى القوات الصربية التي كانت تقصف مدينة موستار بجنون؛ بهدف الاستيلاء عليها، خاصة الجانب الشرقي ذا الأغلبية البوشناقية المسلمة، أي: الجانب الذي تعيش به العائلة.
يقرر زوران وغوران أنهما لن يشاركا في الحرب مع أي طرف، هما يرفضان أن يكونا -بأي شكل من الأشكال- ضمن تلك الحرب.
(4)
في 8 مايو أيار عام 1993، ورغم الحرب التي ما زالت مستمرة، فإن “لوكا” صديق الأخوين يقرر الزواج ويدعوهما إلى زفافه، يذهب زوران مع صديقه حسيب ليصطحبا غوران إلى الحفل، لكن الأخير يرفض الذهاب؛ لأنه لا يملك ثمن هدية للعروسين.
يفشل زوران في إقناع أخيه بالذهاب معه، باعتبار أن مسألة الهدية ليست مشكلة، فصديقهما لوكا يعرف ظروفهما جيدًا، ثم إن الحرب قائمة، لكن غوران يصر على الرفض، فيقرر زوران وحسيب أن يذهبا إلى العرس بدونه.
يعبران الجسر القديم غربًا، يستمر الحفل إلى ساعة متأخرة من الليل، فيصر أهل لوكا الكرواتي أن يبيت زوران الصربي وحسيب المسلم عندهما، على أن يعودا في الصباح إلى بيتهما، يقبل زوران على مضض؛ لأنه لم يعتد على فراق أخيه وأمه.
في صباح اليوم التالي يتحرك الصديقان زوران وحسيب عائدين إلى شرق النهر، لكنهما يلاحظان، على غير العادة، وجود حواجز في كل مكان، وأن عددًا من الدبابات والمعدات الثقيلة تقف موجهة فوهاتها إلى الشرق.
يخبرهما الجنود أن الجسر مغلق لأن الحرب قد اندلعت بين الكروات والبوشناق، يرجع الصديقان حسيب وزوران بسرعة، وهما لا يصدقان ما سمعا، إلى بيت عائلة صديقهما العريس، لقضاء وقت إلى أن تتضح الأمور.
تمر عشرة أيام والأمور تزداد سوءًا؛ فقد بدأت مرحلة التعبئة العامة، يطرق الجنود الكروات كل البيوت بحثًا عن الذكور القادرين على حمل السلاح، يجندونهم قسرًا للمشاركة في الحرب.
أدرك حسيب المسلم أن وجوده خطر عليه وعلى أصحاب البيت بشكل أخص، قال لهم: “إن قبضوا عليَّ في الشارع فسيقتلونني، أما إن وجدوني هنا فسيقتلون الجميع”، فيقرر الرحيل ليلاً، ليخرج من البيت متسللاً للعودة إلى شرق النهر.
في اليوم التالي يصل الجنود الكروات إلى بيت عائلة لوكا، فيأخذونه معهم، يكتشفون وجود زوران عنده، ولأنه صربي القومية، يضمونه معهم لمحاربة “الأعداء المسلمين”، يضطر زوران إلى قبول الأمر؛ لأنه يعرف أن عقوبة الرفض هي القتل، رغم أن أخاه وأمه يعيشان في الجانب الآخر، حيث الأغلبية المسلمة، لقد قرر الصمت والخضوع للأمر الواقع، إنه وقت صعب جدًّا عليه، إن الحرب لا تعني فقط الكراهية، وإنما الجنون أيضًا.
(5)
يحل يوم 6 أغسطس 1993، زوران مناوبًا في الكتيبة العسكرية في منطقة “هوم”، وهي منطقة جبلية مرتفعة على حدود مدينة موستار، يسهل منها قصف المدينة من أعلى، تصلهم إشارة من جاسوس للقوات الكرواتية يعيش في القسم الشرقي، تفيد أن ثمة جنازة الليلة لدفن أحد الموتى في مقابر المسلمين.
يُسر الجنود الكروات؛ فهي فرصة كبيرة لقتل عدد كبير من الأعداء أثناء تجمعهم في الجنازة، يُصدر قائد الكتيبة أوامره لأحد أمهر جنوده بالاستعداد لإطلاق عدة قذائف هاون على المكان المحدد في الوقت المحدد.
يعلم زوران بالأمر، يذهب إلى زميله يرجوه بألا يفعل؛ فهم ليسوا مقاتلين، بل مشيعين لجنازة، يخبره زميله بما يعرفه هو نفسه، أن الأمر ليس بيده، يذهب زوران إلى القائد، يجثو على ركبتيه باكيًا، يرجوه إلغاء الأمر الصادر بالضرب، فيصدر القائد أوامره بسجنه لمدة 24 ساعة في سجن الوحدة تأديبًا له.
في الساعة المحددة، تنطلق القذائف على الجنازة، يسقط ضحايا كثر ، يحتفي الجنود بمقتل هذا العدد في الجنازة، يغنون، ويحتسون الخمر، في انتظار صباح الغد، ليتأكدوا من أعداد الضحايا، من خلال الاستماع كالعادة لنشرة الأخبار من إذاعة “حياة موستار” التي يديرها البوشناق المسلمون.
(6)
في الساعة التاسعة صباح يوم 7 أغسطس، يلتف الجميع حول الراديو؛ القائد والجنود، ومن بينهم زوران، ثم يبث الراديو الخبر:
“قامت قوات العدو ليلة أمس بإطلاق عدة قذائف هاون -من جبل (هوم)- على تجمع من السكان كان موجودًا في المقابر لدفن المواطن (حسيب بابيتش) الذي كان قد قُتل البارحة، وتسببت القذيفة في قتل جميع من كانوا في الجنازة، من عائلة وأصدقاء الميت”.
آه.. إنه أمر مريع، لقد قتل الصديق حسيب، وفي الجنازة التي ولا بدَّ أن أخاه كان فيها قتل الجميع، في لحظات اكتشف نهاية كل شيء.
(7)
بعد عدة شهور، تتوقف الحرب، ويوقع اتفاق دايتون للسلام، لا يكف زوران عن زيارة المقبرة، حيث أخوه وحيث صديقه حسيب، وفي كل مرة يسأل نفسه: هل قتلتهما حين صمت؟
يُدرك أخيرًا أن العذاب النفسي الذي يعانيه إنما هو عقاب كل من يرى الظلم ويلزم الصمت.
الصامتون مجرمون أيضًا.