(1)
في العشرينَ من فبراير شباط عام 1910، وفي بلد مثقل بأزماته الاقتصادية والاجتماعية، تُجرى انتخابات رئاسية تسفر عن فوز “فرانسيسكو ماديرو” على خصمه رئيس البلاد “بورفيرو دياز”.
يتفاءل الناس أن تخرج بلادهم من أزماتها مع الرئيس الجديد، لكن المكسيك شأنه شأن بلادنا، لا تجري الأمور فيها بهذه البساطة؛ فالرئيس المهزوم لا يريد أن يغادر القصر، ويتهم خصمه الفائز بالتزوير.
تحتدم الأمور حين يدعو الفائز الذي يحظى بشعبية واسعة إلى انتفاضة شعبية، لكن “الدولة العميقة” تنجح في القبض عليه، والزج به في السجن.
ينجح بمساعدة بعض الحراس في الهروب من سجنه، بل والفرار من بلده كله لاجئًا إلى الجارة، وفي الولايات المتحدة الأمريكية يعلن نفسه رئيسًا شرعيًّا للمكسيك.
(2)
تغلي البلاد؛ أهلها غاضبون منتفضون، “إيمليانو زاباتا”، ضابط سابق في الجيش، متبرئ مما تفعله مؤسسته العسكرية، يؤسس ما يطلق عليه: “مجموعة زاباتا”، يلتف حوله الكثير من المقاتلين، لتصبح رقمًا مهمًّا في الثورة، وتنجح في فرض عودة الرئيس المنتخب ليحكم البلاد، محاطًا بالفلاحين الذين يجدون فيه أملهم الجديد.
ينتصر الرجل لهم، فيبدأ في توزيع الأراضي عليهم، لكن يبدو أن فكرة أن يحكم الشعب نفسه بنفسه تزعج الجارة الأمريكية، فتتفق مع قائد القوات المسلحة في المكسيك على إزاحة الرئيس الفائز من الحكم بأي طريقة.
وبالفعل، وفي الثامن عشر من فبراير شباط عام 1913، ينقلب الجنرال “هويرنا” قائد الجيش على رئيسه المنتخب، ويزج به في السجن، ومن ثم تُشكل محاكمة زائفة ويقرر العسكر إعدامه، وينفَّذ الحكم في الحال.
يستيقظ الناس على خبر إعدام رئيسهم، ولأن الفلاحين لم يكونوا على استعداد لفقدان مكاسبهم، فقد قرروا الخروج ثائرين، كما ترفض مجموعة زاباتا الاعتراف بالرئيس العسكري الجديد، تضع خطة لتنصيب رئيس مدني للبلاد، ويقع الاقتتال.
(3)
المفاجأة أن النساء يقررن المشاركة، وبعد أن كان دورهن منحصرًا في تسهيل حياة المقاتلين والاعتناء بهم، تقرر بعضهن الانضمام كمقاتلات، ولكن في زي وهوية رجال!
من بينهن امرأة تدعى “بيترا هريرا”، ليس لديها أي خبرة بالسلاح ولا بالقتال، لكنها تقرر أن تخوض الحرب؛ لاستعادة السلطة من الانقلاب.
متخفية ترتدي زي الرجال، وتطلق على نفسها: “بيدرو هريرا”، تتدرب على الحرب وتتعلم فنون القتال، ولا أحد من المقاتلين الرجال يعلم بأن بينهم امرأة، خصوصًا وأنها استوعبت الأمر سريعًا، واشتهرت (أو اشتهر) كمقاتل شرس قادر على تنفيذ التعليمات باحترافية عالية.
تنتقل من مكان لآخر، ومن مواجهة لأخرى، تحقق نجاحات متتالية، يعتبر المقاتلون وجود “بيدرو” -“بيترا” سابقًا- بمثابة حدث فارق وسط المعارك.
تُعين كقائد لكتيبة مؤلفة من مائتي جندي، تفكر أنها لم تتخيل نفسها أن يصل الأمر بها إلى هذه النقطة.
وفي هذه النقطة أيضا تقرر أن تقلب الطاولة على الجميع، فتعلن عن هويتها الحقيقية، المقاتلة “بيترا هريرا” صاحبة النفس الطويل، ولأن دورها مهم وفارق في القوات المقاتلة، فقد كان من الصعب استبعادها إلى خارج صفوف القتال، بل تزداد شهرتها، وتصبح شجاعتها قصائد وأغاني يرددها الناس في جلساتهم.
في العام التالي، وفي مقاطعة توريون، تقود معركة رهيبة، وتحت إمرتها 400 رجل وامرأة، تنتصر وتقع المدينة في أيدي الثوار، وتقع أيضًا المفاجأة، فقائدها الذي تحارب تحت إمرته يرفض أن يرقيها إلى رتبة جنرال كما كان متوقعًا، وهنا يتغير الكثير في مسارها، وتبدأ قصة أخرى، وبالأحرى قصص أخرى.
(4)
لا بأس في خضم المعارك واختلافات الرفاق بشيء من النوستالجيا، تتذكر صاحبتنا ما جرى لها سابقًا، هذا الصدام الأول الذي خاضته لإنقاذ الرئيس المنتخب، والذي كان الخطوة الأصعب في نظر الجميع، حينها سقطت أسيرة في يد قوات الرئيس السابق، فلم يكن منها سوى أنها صرخت في وجه من أسروها بصوت عال: “ليحيا ماديرو.. ليحيا ماديرو”، لكن فجأة يتعرض مكان أسرها للهجوم، تستغل هي الأمر وتهرب، ليكتب لها النجاة.
تصر على مواصلة معركتها، تنتقل “بيترا” من دور إلى دور، ومن مكان إلى آخر، تارة تشكل كتيبتها الخاصة، وتارة تتحرك نحو الشمال لتعمل كجاسوسة لصالح مجموعة من الثوار، ينكشف أمرها وتعتقل، لكنها تنجو وتتمكن من الفرار بأعجوبة.
يقول الناس: إن هذه المقاتلة تنتصر دائمًا، وهي تغير موقفها ودورها، لكن لا تغير بوصلتها، وإنها تنجو من المعارك التي أوشك الجميع فيها على الموت، ولأن لكل شيء نهاية، فإن أمرًا فاجعًا يقع عام 1917 حين تلقى حتفها برصاص ثلاثة جنود مخمورين.
تمر سنوات طوال حتى يحصل اسمها على التقدير، وتُقلَّد رتبة كولونيل، لتكون تلك الصفحة الأخيرة في حياة مقاتلة شجاعة ربما نسيها كثيرون.