(1)
أدهشني أنني كنت أضع الثوب في حوض مليء بالماء الملوَّن، وما هي إلا دقائق حتى يتلوَّن، ويصبح الماء صافيًا.
نعم لقد كان هذا مدهشًا لي، وأنا لم أبلغ بعدُ العاشرة من عمري، وقد وظَّفني عمي في مصبغة؛ لمساعدة عائلتي الروسية القادمة إلى فرنسا من الأرجنتين؛ هربًا من الفقر، وبحثًا عن العمل، ولم أكن أعلم أن هذا الأمر إنما هو فاتحة لي لعالم جديد مدهش.
(2)
يكتشف رئيسي في العمل موهبتي في التعامل مع الكيماويات وتركيباتها، يتحداني بأصعب البقع الصبغية لإزالتها، ودائمًا أنجح.
لقد وجدت في الأمر شغفي، فلجأت إلى القراءة والاطلاع الكيميائي؛ لتعزيز موهبتي، وساعدني عمي على أن أُنشئ في بيته معملي الخاص للتجربة والتعلُّم.
تمر الأيام، وتندلع الحرب العالمية الثانية، ويجد الفرنسيون الجيش النازي فوق رؤوسهم في كل مكان، بما فيه بيت عائلتي، تُقتل أمي على يد القوات النازية، وتنزح عائلتي إلى بيت أحد الأصدقاء.
وما أن يمر عامان حتى أجد نفسي مع عائلتي في معسكر دانسي، الذي جُمِع فيه اليهود ونحن منهم، نقضي فيه ثلاثة أشهر، نعاني خلالها من الجوع والصقيع والتردِّي الصحي، وشاهدت كيف مات الكثير منا.
تتدخل القنصلية الأرجنتينية في فرنسا، وتُنقذ عائلتي… يُفرج عنا، ويقرِّر والدي الانتقال إلى باريس، بل ويقرِّر أن نقتني هويات مزيفة غير هوياتنا اليهودية.
وهنا بدأ كل شيء..
(3)
يكُلِّفني بمقابلة الوسيط، والذي كان يُدعى: البطريق؛ لاستلام هويات الأسرة المزوَّرة منه، ولمَّا عرف هذا البطريق أنني أعمل متخصصًا في الصبغات بإحدى المصابغ، سألني في دهشة: أيعني هذا أنك تستطيع إزالة بقع الحبر؟!
فلما أجبته أخبرني أن لديه نوعًا من الحبر يَستعصي على الجميع؛ حبر العلامة المائية الأزرق، فأريته معادلةً كيميائية يمكنها أن تُنجز المهمة، فعرض عليَّ الاشتراك معهم في تزوير الأوراق، وبالطبع لم أتردد.
وفي مختبر التزوير هذا الذي التحقت به أكتشف -من أول وهلة- مشاكلهم وأعاونهم على حلها، ومن بينها النقص الشديد في الأوراق الرسمية الأصلية اللازمة لعملية التزوير، فاقترحت عليهم أن نقوم نحن بصناعتها، إضافة لماكينات الحبر واللحام وكل ما تتطلبه عملية التزوير، وكانت الماكينات كلها بدائية تعمل بالحركة الميكانيكية كدراجة هوائية.
يُذاع صيتي في الأرجاء، أترأس قسم التزوير في المقاومة الفرنسية، فأزوِّر الوثائق لليهود في أماكن نفوذ النازيين، فأنقذ حوالي 14000 روح قبل إرسالها إلى المحرقة، وأمكث في عملي هذا دون مقابل حتى تضع الحرب أوزارها.
لكني أتفطَّن إلى أمر لم أكن أنتبه إليه.
(4)
لقد ساعدت العديد من اليهود على الهجرة إلى فلسطين حقبة الانتداب البريطاني؛ ظنًّا مني أني أنقذ أرواحهم، لكن ما أن أُعلن عن تأسيس دولة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية حتى قررت التوقُّف، فلن أُنقذ ضحايا ليصبحوا هم الجناة.
يتكرر الأمر مع القوات الفرنسية نفسها، التي ضمتني إلى صفوفها، لكني أغادرها مع اندلاع الحرب الهندوصينية الفرنسية؛ ففرنسا هذه المرة هي المحتل، بل قررت أن أواجه هذا البلد وأناضل ضده.
إلى الجزائر إذن..
(5)
أنضم إلى جبهة التحرير الوطني، وكما فعلتُ مع اليهود في فرنسا، أفعل مع المناضلين المطلوبين من قِبل الاحتلال الفرنسي، فأزوِّر أوراقًا ثبوتية للعديد من الجزائريين الملاحَقين خلال ثورتهم.
أُمنح لقب: المجاهد، وفي الجزائر أتزوج وأُنجب، ولا يمنعني الأمر أن أواصل ما بدأته، أسافر وأغيب حتى تعتقد عائلتي أنني مت، والحقيقة أنني كنت أنقذ الناس من الموت.
تنقَّلت بين بعض دول أمريكا اللاتينية والكاريبي، وفي إفريقيا بين: غينيا، وأنغولا، وجنوب إفريقيا، وفي أوروبا عشت -بعض الوقت- في إسبانيا وهي تعيش حقبة الديكتاتور الأشهر: فرانشيسكو فراكو، وفي اليونان إبَّان فترة المجلس العسكري اليوناني، ومنها إلى البرتغال حيث كان الديكتاتور أنطونيو سالازار، وحتى الولايات المتحدة العظمى لم تَسْلم من عملي في خدمة المجندين الرافضين لحرب فيتنام.
(6)
سارا هي أصغر أبنائي، ورغم أنني لم أمكث معها كثيرًا إلا أنها أصَّرت أن تحكي حكايتي، لِتُصدِر عام 2016م كتابًا عني بعنوان: “أدولفو كامنيسكي.. حياة مزوِّر وثائق”.
ذكرَتْ فيه أن أباها -الذي هو أنا- لم يتوقَّف حتى مماته عن تقديم العون للمساجين واللاجئين والنازحين والثوار في كل مكان، وأن العدالة أينما حلَّت كانت هي قضيته، وأينما ارتحلت رحل معها، وأن أوراقه السحرية طالت كل مكان، وكل هؤلاء الذين احتاجوا أوراقًا تغيِّر هويتهم وتُنقِذ رقابهم.
تضيف ابنتي أنني خضت رحلة استمرت لنحو سبع وعشرين عامًا، قبل أن أُتوفى في التاسع من يناير لعام 2023م، رحلة وضعتُ فيها رأسي على كفي، ولم أجد حيلة تحميني إلا التخفِّي وراء مهنة التصوير، والادعاء بأنني رسام؛ ليكون هناك سببٌ منطقيٌّ لوجود روائح الصبغات والكيماويات بمنزلي.
تقول ابنتي سارا:
طوال فترة طفولتي، عندما كانت صديقاتي تسمع قصص آبائهم الخرافية، كان والدي يقص لي قصصًا عن أبطال مغمورين بمبادئ صلبة، استطاعوا أن يصنعوا المعجزات دون أية حاجة لرفع السلاح أو وقوف الجيش معهم، ودون الحاجة لوجود أتباع أو مريدين، فقط كل ما كان يملكه هؤلاء الرجال وتلكم النسوة هي الشجاعة والإصرار، ولقد استوعبت لاحقًا أن والدي كان يقص عليَّ قصته هو.