(1)
أحيانًا لا خيار لك، لقد تحدَّد دربك مسبقًا، كأن تولد -مثلي- في قرية بوسنية صغيرة، في عائلة فقيرة جدًّا، جل أفرادها من المناضلين المؤمنين -إيمانًا راسخًا- بأن الخلاص في الشيوعية.
اسمي ليبا راديتش، وليبا بلغتنا تعني: “الجميلة”، هل كان عليَّ أن أتوافق مع اسمي، وأعيش حياتي وأتمتع بها كفتاة جميلة، في واحدة من أجمل بلاد العالم؟! لكن من قال: إن الجمال يكمن في الشكل، ألا يكمن -أيضًا- في المبادئ؟ بل ألا يكمن في التضحية من أجلها ولو بحياتك؟!
(2)
وُلدت عام 1925، كبرت وأنهيت دراستي المدرسية في التمريض، كنت متفوقة، لكني في نفس الوقت مهتمة بالأدب، بيني وبينكم كنت قارئة نهمة تقرأ -بحماس شديد- كل الكتب المحظورة التي كان عمي الشيوعي يزودني بها، والنتيجة أني تشرَّبت مبادئ الشيوعية منذ طفولتي، وكنت من أوائل المشاركين في الحركة العمالية التقدمية، وفي رابطة الشبيبة الشيوعية في يوغسلافيا، بلادي التي قام الألمان النازيون بغزوها عام 1941؛ من أجل تأمين البلقان؛ استعدادًا لغزو الاتحاد السوفيتي.
بالتأكيد سمعتم عن تيتو، زعيمنا الذي قاد المقاومة، وشن حرب عصابات ضد قوات المحور وعلى رأسها ألمانيا، لقد حقق نجاحات مذهلة، وحررت قواته مساحات شاسعة من يوغسلافيا المحتلة، وأوقع خسائر فادحة في صفوف الغزاة الألمان.
(3)
في ربيع عام 1942 تنجح قوات تيتو في إلحاق خسائر فادحة في صفوف الألمان، ولأن الحرب متقلبة، فإن الألمان -وبمساعدة المنظمة الكرواتية الفاشية أوستاشا- يشنون هجومًا معاكسًا، ونفقد حوالي سبعة آلاف من مقاتلينا، ويزج بالآلاف من المدنيين إلى معسكرات الاعتقال.
ثم تقع معركة كوزارا الكُبرى، أي: في منطقتي، وفيها يُقتل والدي وواحد من أعمامي، ويُزج بشقيقي الوحيد ميلان -وهو طفل- إلى معسكر اعتقال لا يعود منه أبدًا، ينجو منا حوالي تسعمائة مقاتل فيؤسسون لواء كراينا الخامس.
فيما تنتقل المجموعة الرئيسة مع جوزيف تيتو، من شرق البوسنة إلى غربها، أنضم أنا إلى قوات تيتو المعروفة باسم: الباراتيزان، أعمل في البداية ممرضة، ثم ألتحق بدورة لإعداد الشباب، وأصبح ناشطة ميدانية في رابطة الشبيبة الشيوعية، ويرسلونني -في نهاية مايو آيار عام 1942- إلى بعض القرى؛ لتجنيد أنصار جدد.
أعمل بلا كلل، أنظم لقاءات شبابية في الريف، وأذهب إلى كبار السن أحدثهم عن الأخوة والوحدة، والنضال البطولي لجيش التحرير.
تمتدحني قياداتي بسبب قدرتي ومهارتي في تنظيم الشباب في القرى، وشجاعتي في الأعمال القتالية، حتى أصبح بداية من يناير كانون الثاني لعام 1943 أحد أبرز منظمي أعمال المقاومة، وعمليات نقل الجرحى.
بين العشرين من يناير كانون الثاني ومنتصف مارس لهذا العام تشن قوات المحور هجومًا كبيرًا ضد قواتنا، لكن تيتو ينجح في تنظيمنا، وننجح في شق طريقنا عبر نهر نيريتفا، وفي استرداد معظم الأراضي التي فقدناها رغم خسائرنا الكبيرة.
أُصبح أحد أعضاء اللجنة المكلفة بإجلاء المدنيين والجرحى إلى المستشفى الميداني، ونقل المواد الغذائية والماشية من المنطقة التي هاجمها العدو، وقد كان إنقاذ الجرحى جزءًا أساسيًّا من إستراتيجية البارتيزان بعد أن تعهد تيتو بعدم ترك الجرحى في ساحة المعركة؛ باعتبار أن قوات المحور تعدم الجرحى بشكل روتيني.
(4)
فِي إحدى ليالي فبراير شباط، كانت قواتنا تعبر خطوط العدو، وكنت أسير خلفها عبر تلال الثلوج وبصحبة مائة وخمسين امرأة وطفلاً وشيخًا، فجأة تصل القوات الألمانية إلينا، تنصحني سيدة عجوز أن أخلع ملابسي القتالية لأبدو كامرأة ريفية، وأن أدفن بندقيتي، أرفض ذلك تمامًا، كيف لصاحب الأرض أن يدفن بندقيته؟! أصر على القتال، أصرخ في الناس: حاربوا بما تملكون، إياكم والاستسلام، تنفد ذخيرتي، وأقع في أسر الألمان.
ينقلونني إلى قرية بوسانسكا كروبا، حيث مقر قيادة القوات الألمانية، وهناك أتعرض على مدى ثلاثة أيام للتعذيب، كانوا يضغطون بشدة وكنت أرفض بالشدة نفسها الإدلاء بأسماء الرفاق وأماكنهم.
ييأسون مني، ييأسون من أن أخون، يُصدرون حكمًا بإعدامي في نهاية فبراير شباط عام 1943، بتهمة إطلاق النار على الجنود الألمان، وعمري حينها لم يتجاوز السبعة عشر عامًا.
وفي الوقت المحدد لتنفيذ الحكم، أسير بهدوء وثقة بين الجنود الألمان، وقد قيدوا يديَّ من الخلف بسلك كهربائي، أصعد بالقوة إلى صندوق للذخيرة تحت شجرة أكاسيا، وقد علقوا بها حبل المشنقة.
المشهد رهيب، أنا أمام اختيار واضح، حياتي أو الخيانة، يجددون عرضهم لي بالخيانة، أرفض، وأهتف في الجمع المحتشد لمشاهدة إعدامي: يحيا الثوار، يحيا الجيش الأحمر، يدفع الجندي المحتل صندوق الذخيرة بقدمه، يشتد وثاق الحبل حول رقبتي، يترك الألمان جسدي معلقًا على المشنقة لمدة أربعة أيام، قبل أن يدفن تحت الشجرة، يرسل قائدهم إلى قائده تقريرًا يقول فيه: إن فتاة العصابات -كما يحلو لكل محتل وصف المقاومة- أظهرت تحديًا غير مسبوق.
(5)
أموت، وتموت قصتي، وفي عام 1945، وبينما حرب تحرير يوغسلافيا من الاحتلال الألماني تجري على قدم وساق، يعثر مقاتلونا على صورتي في حقيبة جندي ألماني، كنت أقف متحدية، بينما يربط الجندي النازي حبل المشنقة حول رقبتي، لم يتعرف عليَّ أحد، لكن الصورة وضعت في متحف الثورة بمدينة موستار، بعد أن انتصر تيتو، وأصبح الحزب الشيوعي اليوغسلافي هو الحزب الحاكم في البلاد.
تمر الأيام والسنون حتى يشاء القدر أن يتوقف جندي سابق عند متحف الثوار في مدنية موستار البوسنية، يشاهد صورة إعدامي، يتعرف عليَّ، وهو أحد أقرباء عمي، فيكشف عن شخصيتي.
يهدون لاسمي وسام: بطل قومي، الذي يُعد ثاني أعلى وسام عسكري في البلاد، لأصبح أصغر فتاة تحصل على هذا الوسام، غير أن وسامي الأهم كان بندقيتي، التي لم أدفنها أبدًا.