(1)
لا أتذكر كم كان عمري حينها؛ فقد وُلدت قبل زمن طويل، ربما ألف عام أو أكثر، لكن أتذكر أن ذلك ما وقع في اليوم الثامن والعشرين من الشهر السادس لعام 1914.
(2)
هنا في سراييفو جسر جميل، بناه العثمانيون عام 1541، حين كانوا في البوسنة والهرسك لحوالي 500 عام، يعتلي الجسر نهر ميلياتسكا، الذي يمر عادة بهدوء من شرق المدينة إلى غربها، لكنه لما ثار مرة عند الفيضان أصاب الجسر بأضرار بالغة، فتم ترميمه، ثم أعيد بناؤه كجسر حجري ليعرف باسم “الجسر اللاتيني”.
هناك في صربيا المجاورة “حركة اليد السوداء” التي تأسست عام 1911 كتنظيم سري، يهدف إلى توحيد الدول التي يعيش فيها الصرب بما فيها البوسنة والهرسك، وهي لذلك تحارب إمبراطورية النمسا والمجر التي تسيطر على البوسنة والهرسك منذ عام 1878.
ستة من أعضاء هذه الحركة أراهم يتمركزون الآن فوق إحدى البنايات في شارع أبيل كويي، ذاك الشارع الضيِّق الممتد على طول الضفة الشمالية للنهر، في انتظار موكب ولي عهد النمسا الأرشيدوق فرانز فرديناند وزوجته، اللذين يزوران المدينة الجميلة.
يصل الموكب بالفعل، فيحاول اثنان من الحركة الاقتراب من الأرشيدوق وإطلاق النار عليه، لكن وجود بعض ضبَّاط التأمين دفعهم للتراجع، فاضطر أحدهما إلى إلقاء قنبلة على الموكب، لكنها تنفجر بعيدًا عن سيارة ولي عهد النمسا، ويُلقى الجمهور الغاضب القبض على الجاني، ويوسعونه ضربًا.
(3)
تلجم المفاجأة الجميع، لكن ولي العهد يُصرُّ على زيارة مصابي الحادثة في مشفاهم، وما أن تتم الزيارة حتى يتحرك الموكب لاستكمال البرنامج المعد، لكن ولسود التنظيم والتنسيق، فإن أحدا لم يبلغ سائق سيارة ولي العهد وزوجته بالمسار المعدل للجولة، فيستكمل السير عبر المسار الأصلي.
إلى أن يكتشف الأمر فيحاول العودة إلى الخلف وتغيير المسار، وخلال المحاولة وعند الجهة الشمالية من الجسر، يتربص عضو صربي من الحركة، يدعى “غافريلو برينسيب” فيطلق رصاصة في حلق الأرشيدوق، ويقَتل زوجته برصاصة في بطنها، فيعم الهرج والمرج، لقد قتل ولي العهد النمساوي وزوجته.
(4)
يتضح كل شيء، ويندلع كل شيء.
تعلن النمسا الحرب على صربيا، تتدخل روسيا لتنقذ حليفتها الصربية، فتهرع ألمانيا إلى مساعدة شقيقتها الصغرى النمسا، فتقرر فرنسا التعبئة العامة ضد ألمانيا، ومن ثم تعلنها حربًا عليها، وتجتاح بلجيكا كمعبر للأراضي الفرنسية، فتضطر بريطانيا لإعلان الحرب على ألمانيا دفاعًا عن بلجيكا.
وهكذا -أيها السيدات والسادة- تبدأ في التاسع من الشهر السابع لعام 1914 حرب الكل ضد الكل، أو ما عُرف حينها بـالحرب التي ستُنهي كل الحروب، والحقيقة أنها لم تكن سوى الحرب العالمية الأولى، التي بنهايتها تتغير خارطة العالم.
فتختفي إمبراطوريات وأسر حاكمة، وتظهر دول وقوى اجتماعية وسياسية جديدة، وفيها يَفقد حوالي عشرة ملايين عسكري حياتهم، وعدد مماثل من المدنيين، فضلاً عن خمسين مليون شخص ماتوا بسبب الإنفلونزا الإسبانية التي ساهم في انتشارها حركة الجنود في العالم.
(5)
يتفتق ذهنه عن فكرة، يقرِّر أن يخوض مع ابنه رحلة في أرجاء أمريكا التي تنقَّل بينها ليحيي ذاكرته قبل أن يفقدها، فيسافران إلى بيتهم الأول في أريزونا التي استقروا بها بعد القدوم من البوسنة، ويطلب من ابنه تصوير الطرق والمناطق المحيطة، ليسترجع معه كل الذكريات التي مرت عليه وعائلته حتى يسجلها ويوثِّقها قبل أن تُمحى من عقله.
لكن القدر لا يمهله كثيرًا، ففي العام التالي تصاب زوجته بالزهايمر بدرجة متأخرة تفقد على إثرها الذاكرة تمامًا، حتى تأتي اللحظة التي يقف فيها أمامها، ويسألها الطبيب إن كانت تعرفه أم لا، فيصيبه الصمت بعض الوقت، حتى يظن أنها نسيته تمامًا كما نسيت كل شيء، لحظات مرَّت قبل أن تتغير ملامح وجهها وتتذكره وتناديه باسمه، كأنه طفلها وقد أنجبته للتو.
(6)
وكما فعل في منفاه، أراد أن يفعل مع بلده، فيقرِّر زيارة سراييفو لأول مرة بعد غياب 25 عامًا عنها قضاها في منفاه الأمريكي، ليسترجع بعضًا من ذكرياته في بلده، ضمن قراره بأن يوثق ذاكرته ويحبسها في كتاب من ثلاثة أقسام يحمل شكلاً من أشكال الرواية عن نفسه وعن زوجته ونجله، ويتزين غلافه بالعنوان: “قلبي”.
جاء وحي الاسم بالنسبة له من الواقعة نفسها؛ فقلبه الذي حمل بداخله الكثير من المشاعر والأفكار، كان مرضه هو السبب في احتمالية أن ينسى كل شيء في حياته.
أصبح كتابه “قلبي” أهم ما نشره الرجل في مسيرته وحصل على شهرة ونجاح كبيرين بين الناس بعدما تُرجم للإنجليزية، ولارتباطه بواقعة مرض القلب الشهير، كما أن اللافت فيه أنه لم يكن ذكريات لاجئ هارب من الحرب يحكي عن الدموية والقتل والموت، وإنما ذكريات إنسانية توثِّق لحظات جميلة وحقيقية من الذاكرة كنوع من أنواع المقاومة والحماية لها.
(7)
يقول الأديب البوسني الشهير شمس الدين محمدينوفيتش واصفًا حالته في كتابه “قلبي”:
كنت أتخيل أنني في الخمسين من عمري سأحصل على حياة هادئة مسالمة أذهب فيها إلى المقهى لمقابلة الأصدقاء؛ للتحدث عن ماضينا، لكنني حينما عدت إلى سراييفو بعد طول غياب لم أستطع أن أجد ذلك، غير أنني ما زلت أجد فرصتي الدائمة للكتابة والتدوين، ما وصلت إليه الآن أنه بمجرد أن تغادر إلى المنفى لا يمكنك العودة من جديد، إنك تفقد فكرة الوطن ومعناه، لقد عدت إلى سراييفو قبل عامين لكنني لا أستطيع القول: إنني عدت إلى بيتي، اعتقدت أنه لم يعد بإمكاني قول ذلك، أشعر أنني -وبطريقة ما صرت في منفاي الجديد”.