(1)
“جيواني آندريز” هو شاب في الخامسة والعشرين من عمره، جنَّدته الميليشيا في عمر الثامنة عشر، ومعهم مضت أيامه في القتال، إلى يوم التحقت فيه مقاتلة جديدة بالقوة التي ينتمي إليها.
فتاة جميلة لا يتجاوز عمرها الخمسة عشر عامًا، ومثل حكايات الحب المعتادة، ما أن وقع نظر صاحبنا عليها إلا وأحبها، وبادلته هي الأخرى الشعور ذاته، وغرق الاثنان في أحلام الزواج والأسرة والأطفال.
علمت القيادة بالأمر، لم يرُق لها ذلك؛ فالأمور العاطفية غير مسموح بها، وكل هؤلاء الفتية والفتيات الذين جُندوا في هذا العمر، إنما وهبتهم القيادة للحرب لا للحب، ومن ثم تم ترحيل الفتى إلى منطقة قتالية أخرى بمعزل عن حبيبته، التي أبقوها في مكانها تعاني من آثار ما حدث، إلى أن امتلكت الشجاعة وهي في السابعة عشر من عمرها وفرَّت من هذا الجحيم.
صدفة تلتقي الفتاة الهاربة بفريق “خوسيه”، يسمعون حكايتها ويقررون إذاعتها، يسمعها فتاها ويسأل نفسه: وأنا ما الذي أفعله هنا؟ لقد امتلكت فتاتي شجاعة الهرب فانفكت عنها الأغلال، وإنِّي على إثرها، وليومين كاملين يسير الفتى مخاطرًا بحياته، ينجح في الفرار، ويلتقي بفتاته مرة أخرى.
(2)
“خوسيه ميجيل سوكولوف”، يوصف بأنه خبير الدعاية، وأحد رواد السلام في عصرنا الحديث، تقرر الحكومة الكولومبية الاستعانة به لمساعدتها للتواصل مع ميليشيا القوات الثورية، التي تحاربها.
يعرف الجميع أن مائتي ألف قتيل أغلبهم من المدنيين، ونحو خمسة ملايين نازح نصفهم من الأطفال، هم حصيلة الحرب الدموية التي استمرت لخمسين عامًا بين حكومة كولومبيا المدعومة من الولايات المتحدة، وبين القوات المسلحة الثورية الكولومبية FARC المدعومة من الاتحاد السوفيتي، نعم فقد كانت كولومبيا أيضًا ساحة للحرب الباردة بين القوتين العظميين.
ويعرف خوسيه أن القوام الرئيسي لهذه الميلشيا إنما هم من الشباب والمراهقين الذين يتم تجنيدهم إجباريًّا في صغرهم، فلماذا لا يبحث في خطة لاستمالة هؤلاء اليافعين وتحييدهم، فإن نجح الأمر فلن تجد الميليشيا المزيد من القوات.
يتواصل وفريقه مع ستين عنصرًا من المنشقين عن هذه الميليشيا؛ ليفهموا منهم أفضل سبل الاتصال بزملائهم، يتحدث هؤلاء الشبان عن أسباب انضمامهم ودوافع الاستمرار، يتحدثون عن آمالهم وأحلامهم بعد الانشقاق، لقد كانوا محض أسرى يحاربون من أجل سجَّانهم، شأنهم شأن المساجين الذين كانوا يعتقلونهم، إلا أن الفارق الوحيد أنهم يحملون السلاح.
يُدرك خوسيه أن الأسير لا يثق إلا في زميل محبسه، لذا يطلب من هؤلاء الشباب تسجيل حكاياتهم وما وقع لهم حتى نجحوا في الفرار، ثم يقوم فريقه بوضعها على الأشجار، وبثها في الإذاعة، ومن ضمنها كانت حكاية “جيواني” وفتاته.
(3)
سعيد هو خوسيه؛ لقد أتت هذه الوسيلة أكلها مع المقاتلين الصغار، فما لنا لا نجربها على القادة؟
وبالفعل يقصد فريقه قادة منشقين ويطلب منهم الأمر نفسه: تسجيل حكاياتهم ودعوة زملائهم للفرار؛ ليخبروهم أن ثمة حياة أفضل في الخارج، وأنهم على ما يرام، وأن انشقاقهم لم ينته إلى مقتلهم.
لكن لسوء الحظ، لم تُجدِ هذه الاستراتيجية النفع مع الكبار؛ إذ أقنعتهم قياداتهم أن هذه الرسائل الصوتية قد سُجِّلت تحت التهديد، وأن زملاءهم يغررون بهم، فلا تطيعوهم ولا تصدقوا زعمهم.
لكن لا بأس، ما زلت الحيلة تُجدي مع الصغار، وهم الأهم والأبقى، فلنستمر، ولكن بعيدًا عن الحكومة والجيش، ينبغي لنا أن نتحدث من إنسان لإنسان، لا من خصم لخصم، إننا نبحث عن بقايا الضمير الإنساني القابع في صدور الفتيان ولم يلوثه طول الأسر بعد، هكذا رأى خوسيه.
(4)
في أيام الأعياد يطلب خوسيه أشجارًا عملاقة للكريسماس، يكتبون عليها رسائل دعم وتشجيع لهؤلاء المراهقين؛ علَّها تستميل قلوبهم، كانت فكرةً رائعةً، لكنه علم أن الميليشيا لم تعد تستعمل الطرقات بكثرة، وأنها تميل إلى التحرك بالنهر، فذهب مع فريقه إلى قرى النهر، حيث يتم التجنيد لهؤلاء الفتية.
يجمع فريق خوسيه نحو 6000 رسالة من أصدقاء هؤلاء الشباب وجيرانهم وأهليهم؛ بعض هذه الرسائل كانت ألعابًا، بعضها الأخرى كانت حلوى وهدايا، يا إلهي إنهم بعدُ صغار، وفي كرات عائمة شُحِنت الهدايا والرسائل وأُلقيت في النهر حتى تصل المُجندين على الضفة الأخرى في ستر الليل.
تقول لهم الرسائل: اخرجوا.. عودوا إلى منازلكم في عيد الميلاد!
وبالفعل كانت ست ساعات فقط كافية من وقت إرسال الهدايا والرسائل ليهرب إليهم بعضهم، وفي كل يوم كان يتوالى الفارون حتى تجاوز عددهم ثلاثمائة شاب.
لقد فعلت الرسائل العاطفية والهدايا الصادقة ما لم تفعله الحكومة طيلة نصف قرن، لكن ثمَّة رسائل أخرى كانت من القوة ما يكفي لتطيح بحروب العالم أجمع.
يجمع خوسيه وفريقه سبعًا وعشرين أمًّا ممن جُنِّد أبناؤهم رغمًا عنهم في صغرهم، ويطلبون طباعة صور أبنائهن والكتابة تحتها: “قبل أن تكون من المقاتلين كنت طفلي، لذا عد إلى المنزل؛ فأمك بانتظارك”.
(5)
تنجح خطته في استقطاب المزيد من الشباب، لتأتي مرحلة جديدة من خطته وهي التلفزيون.
فنحن في العام 2014، حيث منتخب بلادهم الكولومبي لكرة القدم يقدم أفضل مستوياته في كأس العالم المقامة بالبرازيل، يستغل خوسيه حالة النشوة التي تعيشها البلاد بتألق منتخبهم، ويبث عبر الشاشات رسالة من أحد الجنود مفادها: اخرجوا من الغابات، هيا، لدي في مروحيتي مكان فلنذهب ونشاهد بلادنا في كأس العالم.
لقد مكث خبير الدعاية مع فريقه لثمان سنوات من أجل استرداد هؤلاء الشباب، عبر الإذاعة، الملصقات، اللوحات الضخمة، التلفزيون، كانت الرسالة واحدة: تعالوا إلينا، نحن نرحب بكم، نحن أمة واحدة، هذه بلادنا جميعًا، وقد استجاب له حوالي 17000 من المقاتلين الشباب.
(6)
ثم يأتي يوم الثالث والعشرين من يونيو عام 2016، لتشهد العاصمة الكولومبية هافانا، توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار بين الحكومة الكولومبية والقوات المسلحة الثورية الكولومبية، في وثيقة صلح تجاوزت المائتي صفحة.
ألم أخبركم أن في الحكاية النجاة؟