علامة استفهام 16: ماذا نفعل إذا ما حل الموسم؟
(1)
وَقَفَتُ مَعَ العَابِدِينَ، فَلَمْ أَرَ لِي مَعَهُمْ قَدَمًا، فَوَقَفْتَ مَعَ المُجَاهِدِينَ، فَلَمْ أَرَ لِي مَعَهُمْ قَدَمًا، وَوَقَفَتْ مَعَ المُصَلِّينَ، فَلَمْ أَرَ لِي مَعَهُمْ قَدَمًا، فَقُلْتَ : يَا رَبِّ كَيْفَ الطَّريقُ إليْكَ؟،فَجاءك النداء: خَلَّ نَفْسَكَ وَتَعَالَ.
في مواسم العبادات نتكشف، يفتضح أمرنا، ليس أمام الناس ولكن أمام أنفسنا، وهذا هو الأهم، في البداية يأخذنا الحماس، ندعي الإيمان، ثم نبحث في أنفسنا، لنعرف أين نحن من الصراط المستقيم، فتكون المفاجأة.
“أبو يزيد البسطامي” يحكي هنا وكأنه يحكي عني شخصيا، فلا أنا أحمل صفات العابدين، ولا المجاهدين، ولا المصلين، وعندما تخنقني العبرة، وأحزن على حالي تأتيني الإجابة “خل نفسك وتعال”
الحقيقة أننا -كما قرأت- نريد الله، “ولكن مع باقة من الأمور الأخرى، مما يعني أن لدينا أشواكا في تربتنا”، ولذلك تكون النصيحة: دع كل شيء وراء ظهرك، رغباتك وهواك وفلسفتك الزائدة، اترك كل شيء، حتى أترك نفسك، وتعال.
(2)
من علامات كمال العقل علو الهمة، والراضي بالدون دني
كلما قرأت هذه المقولة كلما شعرت أن صاحبها “ابن الجوزي” يصفعني، إنه يقصد بلا شك أن تدني الهمة علامة لنقصان العقل، وأن الراضي بالقليل دني، يا له من وصف صادم!
غير أن معه حق، أحلامنا في الدين والدنيا لا منتهى لها، لكن عزيمتنا وإرادتنا في أغلب الأحيان لا تتماشى معها.
قبل الوباء، تزدحم المساجد في الأسبوع الأول من رمضان عن آخرها خلال صلوات التراويح، ثم يبدأ العدد يقل إلى نهاية الشهر، مثال صارخ لأصحاب الهمم الضعيفة، إن نوايا الذين تخلفوا حسنة بلا شك، لكن عزيمتهم وإرادتهم لم تساعدهم في الاستمرار.
(3)
الإرادة استدامة الكد وترك الراحة
الهمة لا تتوهج للحظة ثم تنطفئ، لا معنى لإرادة إلا بالاستمرار، لذا فقد وصف “أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ خَفِيفٍ” الأمر بدقة كاملة، إنه استدامة الكد، وهو ما يعني ترك الراحة.
الهمة المقصودة هي التي تدفعنا إلى فعل يومي لا ينقطع، يؤديه المرء بلا كلل ولا تبرم ولا انتظار لثمرة ولا توقف.
همة لا تعرف الحجج والأعذار، بل تعتبر أنها تختبر بقدرتها على التغلب عليها والاستمرار، وإلا فما الفارق بين أصحاب الهمم وغيرهم.
همة يدرك صاحبها الأمر الإلهي “فإذا فرغت فانصب”.
صحيح قد يكون العمل الذي عزم عليه المرء بسيطا، لا بأس، لكن المهم أنه مستمر، متواصل مهما كانت الظروف والعوائق.
(4)
أن مُكَابَدَتُكَ لِنَفْسِكَ حَرْبٌ لَا نِهايَةَ لَهَا
لسبب ما هناك من يعتقد أن الأمر يحسم في البداية، تقرر أن تكون صالحا، فتكون، تغلق صفحة وتفتح أخرى، وهو رأي مخالف تماما لحقيقة أن حربك لنفسك وضبطها وتهذيبها لا يتم دفعة واحدة أو في مرحلة ما ثم ينتهي الأمر، وإنما هي حرب مستمرة، مهما استقر إيمانك وبلغ صلاحك.
حتى هؤلاء الذين نعدهم من الصالحين، لا يخرجوا من فتنة إلا ودخلوا أخرى، فالنفس متقلبة بصورة عجيبة، وهو ما يتطلب أن يكون صاحبها يقظا لها على مدار الساعة، يراقبها ويحذر منها.
تكون في مجلس يذكر فيه الله، فيلين قلبك، وتدمع عيناك، ثم تخرج إلى الشارع فإذا بك شخص آخر تماما، فتحاربها من جديد وتقمعها حتى تعود إلى جادة الطريق، وهذا هو بالتمام ما قصده جلال الدين الرومي، من أن حربك مع نفسك لا تتوقف أبدا.
(5)
عَلامَةُ حُبِّ اللَّهِ كَثْرَةُ ذِكْرِهِ فَإِنَّكَ لَا تُحِبُّ شَيْئًا إِلَّا أَكْثَرَتَ من ذِكْرِهِ
ولأن النفس ضعيفة، كثيرة التعلق بالأعذار فليس أسهل من هذه العبادة التي بغيابها يدرك المرء بكل سهولة مدى تقصيره، وأنه تجاوز الخط الأحمر، وأن ثمة خطأ ما يجب أن يتداركه.
وما ذكره هنا “الرَّبيعُ بْنُ أَنَسٍ” منطقي للغاية، ونراه في حياتنا اليومية، فإذا وقعت في حب أمر أو شخص فإنك تكثر من ذكره، فكيف يدعي المرء حب الله ثم لا يداوم على ذكره تعالى.
غير أن ما ذكره الشيخ محمد الغزالي لفت نظري إلى أمر آخر، ألا وهو أن ذكر الله ليس استحضارا لغائب، وإنما حضورك أنت من غيبة، وإفاقتك أنت من غفلة.
(6)
السالك في أول الأمر، يجد تعب التكاليف ومشقة العمل، لعدم أُنْس قلبه بمعبوده، فإذا حصل للقلب روح الأنس، زالت عنه تلك التكاليف والمشاق، فصارت العبادة قرة عين له وقوة ولذة.
عرفنا وعزمنا علي أن نسلك الطريق، لكننا نجد في أنفسنا مشقة غير عادية، وعدم ألفة، وتحدثنا أنفسنا أن نتوقف إلى أن يزيد إيماننا، فنستكمل العبادة ونشعر بالسعادة حين نؤديها.
والحق الذي ذكره هنا “ابن القيم” أن الأمر عكسي، وهو أن نفسك لن تشعر بهذه السعادة قبل أن ترغمها إرغاما على سلوك الطريق، والصبر على مشقته، وأداء العبادات حتى ولو كان قلبك غير حاضر، حتى ولو كنت منزعجا وغير مستريح، لأن ذلك كله سيتغير تماما إلى أن تصبح العبادة هي قرة عينك.
(7)
الآن ما العمل؟
لا شيء ..
سأمضي في طريقي، وأظنني قد أسقط مرة أخرى.
لا بأس، فقد علمت طبيعة النفس، ووجوب مكابدتها.
ستدفعني همتي العالية لأن أقف من جديد، وأواصل الكد، لعلي أصل.