(1)
– هل وجدتِه؟
– نعم، أخيرًا قبل نصف ساعة، الحمد لله.
– مبارك.
– شكرًا، والعُقبى لك بإذن الله.
(2)
ربما كان ذلك أغرب موقف قد واجهته في مثل هذه الحالات، ولم أفهمه في حينها أبدًا، اللائي لم يجدن جثث أحبابهن يهنئن اللاتي وجدنها، واللائي وجدنها يشكرنهن ويتمنَّين لهنَّ أن يجدن أحبابهن قريبًا.
على سبيل الأمل يظل المفجوع يتمنى خبرًا حاسمًا عن مصير من فقده، وإن كانت كل الدلائل تشير بصورة حتمية إلى وفاته، هو يريد دليلًا قاطعًا يقضي على هذا العذاب، حتى لو كان هذا الدليل جثة هامدة، فقبل أن يحمل نعشه ويدفنه بيديه لا ينام المفجوع أبدًا، لا يرتاح أبدًا، لا يعيش أبدًا.
أن يفقد المرء حبيبًا فهذه مصيبة، ألَّا يجد جثته فهي المصيبة الكبرى.
تذكرت الآن والد رياضي أوروبي شهير، سقطت طائرة ابنه في البحر، وأُكِّد موتُه، لكنهم لم يجدوا جثته، أصدقاء ابنه وأحبابه جاؤوا أباه معزِّين، فقال لهم: من فضلكم، إن كنتم تحبونه فجِدُوا جثته أولًا.
(3)
أكثر من ٣ آلاف أسرة في البوسنة والهرسك ما زالت تعيش هذا الألم جرَّاء مذبحة سربرنيتسا، تخيَّل ربع قرن يمر، والأم أو الزوجة لا تعرف أين جثة حبيبها الذي قتله الصرب في أفظع مذبحة تشهدها أوروبا خلال الحرب، ربع قرن يمر، ولا يحدث شيء سوى أنّ الجرح يكبر.
لم يرتكب الصرب الجريمة مرة واحدة؛ بل مرتين، فبعد أن دفنوا ضحاياهم، وبعد أن انتهت الحرب، وأدركوا أنّ المجتمع الدولي سيبدأ التحقيق، راحوا ينبشون هذه المقابر، فيأخذون من هذه ويضعون في تلك، خطة شيطانية لخلط رفات الضحايا بين مقابر مختلفة حتى إن كانت على مسافات متباعدة، بذلك تختلط العظام بعضها ببعض، فيصعب على ذوي الضحايا التعرف عليها، تقول صحيفة محلية “إن جثة أحدهم وبفضل فحوصات “دي إن إيه” (DNA) وُجدت متفرقة في ١١ مقبرة، إنهم يُمعنون في تعذيب أهالي الضحايا، إنهم يقتلونهم مرة أخرى”.
(4)
هل تسألني عن أصعب موقف مررت به؟تتوقع أن أحدثك عن واقعة ما في معركة ما، لكن الأمر ليس كذلك، كان الأصعب يومَ عزمت على إعداد فيلم وثائقي عن بعض عائلات ضحايا سربرنيتسا، وقد تجمعن في ضاحية من ضواحي سراييفو.
كان عليَّ أن أقضي وفريقي عدة أيام بينهن -كنّ نساء فقط- الحي كله لا تسكنه مؤقتًا إلا نساء من ضحايا المذبحة، فقدن أبناءهن أو أزواجهن.
التفاصيل اليومية مريعة، كل واحدة تدخل بيتها وتخرج لترينا أثرًا من آثار حبيبها، أو تفتح صندوقًا صغيرًا كأنه كنزها لتخرج منه قميصًا لزوجها، أو حذاء لابنها، أو حتى دفترًا صغيرًا، أو قصاصة من رسالة قديمة، أي شيء، أي شيء يحمل رائحة المغدور.
في الطرقات عجائز يجلسن طوال النهار لا يتكلمن، يُحدقن في اللاشيء.
هل تواسيهن؟
وماذا يمكن أن تقول لهن وأنت الصحفي الأجنبي، الذي سيرحل ويعود إلى أحبابه؟
هل تصمت؟
أي حال منهما يعبر عن الاحترام؛ المواساة أم الصمت؟
تسألهن أن يحكين حكايتهن، تشعر بأنك تشارك في الجريمة مرة أخرى، توقظ كل الذكريات، كل الأحداث، كل التفاصيل الصغيرة، تُكثر من الأسئلة، تسعى لمزيد من التفاصيل، نهر الدموع يغرقهن، وأنا من حين لآخر أشيح بوجهي هنا أو هناك، يجب ألا يلمحن أي دمعة في عيني، ربما يستغربن: وما شأنك أنت؟
أتذكر ما قاله غسان كنفاني في رائعته “عائد إلى حيفا”؟ كل دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقًا صغيرًا يتسع لأبوين يبحثان عن طفلهما المفقود.
أعترف بعجزي، بحكم عملي عاصرت مثل هذا الموقف كثيرًا، ورغم أن الكلمة هي حرفتي فإنني لم أفلح يومًا في وصف مشاعر هذه الأم، أو هذه الزوجة، أو هذه الابنة، وهي تمسك بصورة حبيبها وتستعيد الذكريات
(5)
وربما -وأنت تسألني عن أصعب موقف- أتذكر عام 2010، أي بعد ١٥ عامًا من وقوع المأساة، كنت حاضرًا في الاحتفال السنوي لذكرى يوم ١١ يوليو/تموز الذي يدفن فيه من اكتُشفت جثته، وتعرّف عليه أهله خلال العام الماضي.
مشهد مَهيب، المئات من ذوي الضحايا يجتمعون، النعوش مغطاة باللون الأخضر كأنها غابة جديدة خرجت فجأة من الأرض، أمٌّ تربت على نعش ابنها كأنها تهدهده صغيرًا، أخرى تزيل من فوق النعش بعض الأتربة التي علقت به قبل أن تواريه التراب، كأنها تفعل ما كانت تفعله إذا ما علق بقميصه شيء ما وهو صغير.
تقام الصلاة، ثم يهرع الحضور للدفن، أصوات النحيب في كل مكان، وكأن الحادثة وقعت أمس لا قبل ١٥ عامًا.
سألت نفسي هل يدرك الجناة حجم جريمتهم؟ كيف يمكن للإنسان أن يكون وحشًا إلى هذه الدرجة؟
من بوسعه -ومهما كانت الأسباب- أن يجد عذرًا لهذه الجريمة؟
(6)
بعد الحرب تخيلت أن سربرنيتسا انتهت، والحقيقة أنها ما زالت تكبر.
وما زال العالم يخون البوسنة مثلما خانتها الأمم المتحدة التي أعلنت سربرنيتسا منطقة آمنة، لكنها لم تحمها، مثلما منحت نوبل جائزتها إلى الأديب الصربي بيتر هاندكه لعام 2019، وهو من أيَّد علانية الجناة الذين ارتكبوا المذابح التي وقعت في حق المسلمين في كل المنطقة، وتمنى في حديث علني نقله تلفزيون بلغراد أن يكون “راهبًا أرثوذكسيًا يقاتل من أجل كوسوفو”، حتى إن وزير خارجية كوسوفو السابق بيتريت سليمي قال متهكمًا على منحه الجائزة: ماذا بعد؟ جائزة السلام للأسد؟
ما زال العالم يخون البوسنة حين يُسيِّر أمورها وفي الوقت ذاته يرفض أن يكبح جماح القيادات الصربية التي تبدو أكثر تطرفًا من تلك التي خاضت الحرب، وما زالت تصر على حلمها بصربيا الكبرى.
سربرنيتسا كبرت حتى امتدت إلى سوريا والعراق واليمن وليبيا، وما “رابعة” في مصر ببعيد.
(7)
إياكم والنسيان، وثِّقوا كل سربرنيتسا بينكم، ابحثوا عن كل السبل القانونية لتحاكموا بها الجناة، لا تدعوا صبركم ينفد، فأرواح الضحايا تنتظر المخلّصين منّا.