(1)
كنت مارّاً بإحدى ضواحي لندن، فلفت نظري حشد ضخم من الناس يلتفّون في حلقة ضخمة، نساء ورجال وأطفال، دسست نفسي بينهم لعلي أعرف السبب، لاحظت أن بين الجموع وجهين يبدوان غريبين وسط هذا الحشد، حزرت أنهما من أسكتلندا.
كان المشهد مهيباً، رجل ضخم الجثة مثبَّت على صليب خشبي، مكبَّل من كل أطرافه، حول الرجل رجال أشداء ملثمون يذيقونه أشد العذاب، يأتمرون بأوامر رجل حاسر الرأس يرتدي زياً أحمر اللون.
أكاد لا أصدق، لقد انتزعوا أحشاءه وهو حي، الناس تراقب في ذهول وشماتة، تتصاعد همهماتهم مع كل وجبة تعذيب، لكن امرأة تصيح فجأة: “الرحمة”! الحاضرون يرددون -بتثاقل وعلى استحياء- صيحتها، ثم يتحمس الجميع وتعلو أصواتهم: الرحمة، الرحمة! لكن التعذيب يستمر والرجل يتلوّى من وقع الألم، جلاده يلح عليه أن يعلن توبته ويطلب العفو، يستجمع الرجل كل قوته ثم يصيح فجأة: الحرية!
(2)
لا يمكن أن أنسى هذا المشهد الذي وقع في 23 أغسطس/آب عام 1305م، والذي صوره فيلم “قلب شجاع” ليصنَّف واحدا من أفضل مئة مشهد في تاريخ السينما العالمية، لقد شاهدته مراراً -مع عائلتي ومنفرداً- حتى خُيِّل إليّ أنني كنت حاضراً وقت الحدث، وفي كل مرة وعندما تهوي المقصلة على رأس الرجل ينتابني حزن شديد لمصير هذا المناضل، وأسأل نفسي: هل يجب أن ينتصر المناضلون؟
(3)
سألت نفسي: عندما قرر وليام والاس الأسكتلندي أن يخوض حربه ضد محتله الإنجليزي كان يدرك تماماً أن ميزان القوى ليس في مصلحته، بل لا قوة تذكر لديه في مقابل قوة المحتل؛ فهل أخطأ أم أصاب عندما قرر أن يحارب؟ هل تجاوز المنطق في ذلك؟
ثم ما لبث أن اندلع حديث صاخب بيني وبين نفسي، فقلت متهكماً: هيا، افترض أن المناضلين على مَرّ التاريخ لا يخوضون حرباً ضد محتلهم أو حاكمهم الدكتاتور إلا إذا ضمنوا نتائجها، تخيل أنهم يجلسون أمام شاشات حواسيبهم ويُدخلون ما لديهم من معلومات عن الخصم، ثم يقارنون بينها وبين ما لديهم من قوة، ثم ينتظرون ما ستنصح به تلك الحواسيب التي تعتمد المنطق، فإذا كان النصر مؤكداً خاضوا نضالهم، وإذا هي الهزيمة عدلوا عن قرارهم وقبلوا بالاستسلام وما يفرضه من ذل وهوان؛ فأيّ نضال هذا يا صاحبي وأي شرف، بل أي منطق؟
ثم لماذا لا تتذكر ما حكاه علي عزت بيغوفيتش حين قال إن ياسر عرفات نصحه خلال الحرب الدائرة في بلاده بأن يقبل بالتقسيم بينه وبين عدوه، وأن يوافق على العرض الصربي بدويلة صغيرة للمسلمين داخل البوسنة والهرسك، فكيف بمقاتلين بوسنيين متطوعين يحارب الجيش اليوغسلافي بقيادته الصربية، والذي كان يعدّ حينها رابع قوة في أوروبا؟ يقول الرئيس البوسني الأسبق إن عرفات نصحه قائلا: “لا تكرر خطأنا فقد رفضنا العرض الإسرائيلي وحَلّ بنا ما حلّ”.
أتذكر هذا اليوم جيداً، وإن كنت لا أتذكر أي يوم من السنة تحديداً، حين لمّح “علي” -في مؤتمر صحفي بالعاصمة المحاصرة سراييفو- إلى إمكانية التفكير في نصيحة عرفات التي ذكرها، لقد أصابتنا جميعاً -نحن معشر الصحفيين الأجانب- دهشة بالغة، فذلك يناقض مواقف الرجل السابقة؛ لكنه عاد في المساء فدعا إلى مؤتمر صحفي جديد، وقال إن جنوده وقياداته العسكرية اتصلوا به من أنحاء البوسنة ليصرف النظر عن التفكير في هذا الأمر، وأنهم سيواصلون النضال.
في مذكراته؛ يصف “علي” ما جرى مرة بينه وبين جنوده خلال زياراته المعتادة لجبهات القتال، فيقول: “إن هناك أشياء غريبة تحدث، فلقد قالوا لي ليس عندنا رصاص ولا طعام، توقعت أن يقولوا لي جِدْ مخرجاً ما، ثم يليها جملة غير متوقعة: نرجوك ألا تدعهم يفلتوا دون عقاب، فلدينا القوة، وسوف نقاتل حتى النهاية. كنت في بعض الأحيان حائراً كيف أرد عليهم، كان هذا هو الحال في كل مرة ألتقيهم. قد يقول بعضكم: أين الحوار المنطقي في كل هذا؟ لا يوجد أي منطق فيه، وهذا هو الشيء الجيد في الموضوع، لأننا لو كنا منطقيين لكنا استسلمنا في نهاية أبريل/نيسان أو بداية مايو/أيار من عام 1992”.
ثم لماذا لا تتذكر -قلت لنفسي- ما كان يجري معنا ونحن في عز شبابنا، نحلم بتغيير العالم ونتبنى أي فكرة يمكن أن تنصر قضايانا، وعندما نعزم على فعلٍ ما يبدو أنْ لا طائل من ورائه غير كونه موقفاً أخلاقياً، كان الكبار سرعان ما يمطروننا بنصائحهم: “لا ترموا بأنفسكم إلى التهلكة”، أو “كونوا عاقلين ولا تتهوروا”، والأهم “أين المنطق فيما تفكرون فيه؟ لا تقدموا على ذلك فأنتم خاسرون بلا شك”.
فكرت في طبيعة المقياس الذي نقيس به الأمور: المنطق أم الأخلاق، وهل يمكن أن نضع مواقفنا الأخلاقية تحت مقصلة المنطق؟ عدونا قوي ونحن ضعفاء فلنستسلم، هكذا ببساطة؛ ماذا لو فعل الأنبياء ذلك؟ ستقول لي إن الأنبياء لهم رب ينصرهم، وأنا أقول لك إذا كانت معركتك ضد باطل وظالم أليس لك رب ينصرك؟ مهلاً مهلاً، وماذا إذا لم ينصرك؟ قلت لنفسي: وهل يجب أن ينتصر المناضل؟ يا إلهي لقد عدت إلى السؤال نفسه!
ينسلّ من عقلي سؤال آخر: أين كان المنطق عندما ألقِي القبض على تشي غيفارا وأعدِم بسبب وشاية من أحد الذين كان يدافع عنهم ويحارب من أجلهم؛ فهل هُزم غيفارا حين مات؟ وهل إذا عاد سيعود؟ هل هُزم عمر المختار حينما أعدِم، حتى نيلسون مانديلا -الذي بات رئيساً- هل انتصر فعلاً وقد خسر سنوات زهرة شبابه في السجن؟
(4)
لعنة الله على الأسئلة، إنها تتناسل ذاتياً بطريقة عجيبة، خذ عندك مثلاً هذا السؤال: لماذا الشر دائماً أقوى من الخير؟ لماذا لا ينتصر الخير غالباً إلا في الدراما، في القصص والروايات والأفلام والخيال؟
أجيبك أنا يا صاح: لا قيود تحكم الشر وتقيد تحركه، إنه يستخدم كل الأدوات التي بإمكانه، أما الخير -ولأنه خير- فقد حدَّ نفسه بقيود، أصحاب الشر سوف يسرقون ويقتلون ويكذبون، سوف يتجاوزون كل القيود ليحظوا بالقوة ويصلوا إلى مبتغاهم، بينما أهل الخير مقيدون بما فرضوه على أنفسهم من قيود أخلاقية.
يبدو أنك لم تقتنع، إذن خذ هذه أيضاً: هل تعرف أن الضربة القاضية التي تصرع أهل الخير إنما هي من أهل الخير أنفسهم؟ كيف ذلك؟ أقول لك: من أهل الخير من يساعد ويدعم عن غير قصد أهل الشر، يقول المفكر الإيرلندي إدموند بيرك إن الشيء الوحيد الذي يجعل الشر ينتصر هو أن يظل الخير ساكناً لا يفعل شيئاً.
تخيل -واصلت الحديث مع نفسي- أن هذا الإيرلندي يفترض أن العامل الأهم والحاسم هو أن أهل الخير، أو شرائح من أهل الخير تقف صامتة ساكنة، أطلقنا عليها من قبل “حزب الكنبة”، يجلسون صامتين يتابعون معركة الخير والشر، فإذا انتصر الأخير فإنهم غير مدانين، وإذا انتصر الخير اندفعوا يؤيدونه، يا له من موقف دنيء، يتحججون بأن لديهم آباءهم وأمهاتهم المرضى المحتاجين لهم، أو زوجاتهم وأولادهم، وكأن المناضلين أفراد يعانون فراغ الوقت فقرروا أن يمتهنوا النضال.
(5)
هل تظن نفسك وليام ولاس، هل تظن نفسك قائداً فذاً وزعيماً تقود الجماهير؟ أجبت نفسي: لا ولا أرنو إلى ذلك، والمناضل ليس بالضرورة قائداً يتقدم الصفوف، العم أحمد السائق كان مناضلاً حين قال: لا، الست أم مصطفى التي تبيع الحلوى كانت مناضلة حين قالت: لا، عزيز بسنواته الست عشرة كان مناضلاً حين قال: لا، كمال، بطرس، عادل وغيرهم وغيرهم كانوا مناضلين حين قالوا: لا؛ ليس النضال محصوراً في تصدر الصفوف، ولا في أعمال ضخمة، النضال أن تنحاز لما تؤمن به من مبادئ شريفة، وبالقدر الذي تستطيعه.
(6)
كان الحديث مع نفسي يوشك أن ينتهي حين باغتتني نفسي وقالت: هل تعرف؟ لقد تذكرت الآن هذا الألماني الذي مات بعد مولدي بنحو ستة أشهر، طبيب ومسرحي وشاعر، اسمه برتولت بريشت، فقد قال قولاً بليغاً حاسماً: “مَن يناضل ربما يخسر، ومن لم يناضل فهو خاسر بكل الأحوال”.
الذي يتراجع وينسحب وينضم إلى “حزب الكنبة” ويبرر الأمر بأنه فتنة، وأن عليه أن يصمت هو الخاسر، والذي يناضل ينتصر، ينتصر حين يحقق أهدافه، ينتصر حتى لو مات قبلها، فالمعركة -في نظري- شخصية جداً، بمعنى أنها: ماذا فعلت أنا، وليست ماذا فعل الآخرون، ولا ما هي النتائج، فقط ماذا عليَّ أن أفعل، وهل فعلته؟
هل تعرف -يا هذا- أنك إذا كنت مناضلاً حقيقياً فإنك لا تحارب لتحقق نصراً تستمتع به وتجني حصاده، أنت تحارب دفاعاً عن مبدأ، أنت تريد أن تموت نظيفاً، أنت تنتصر للأخلاق التي يراها البعض بضاعة غير رائجة، وغير رابحة، أنت تعادي الفاسدين والظالمين، أنت -في الحقيقة وبهذا المفهوم- تحارب من أجل نفسك، أنت -في الحقيقة أيضاً- تنتصر حين تحارب، فقط عندما تحارب ومهما كانت النتيجة. وهذا المنطق لا يفهمه كُثْر، بل قد يتساءلون: أين المنطق في ذلك؟ ومعهم حق؛ فلا منطق في ذلك، غير أنك ستنتصر!