(1)
“قال ساراماغو لزوجته حبيبته: هذا الفيلم إعلانٌ عن حُبِّي لك. فأجابته الحبيبة: نعم، لكن حياتي هي إعلان عن حُبِّي لك”. عبارتان رائعتان موجزتان في معنى الحبِّ.
(2)
الفيلم اسمه “خوسيه وبيلار”، يُوَثِّق فيه مخرجه السنوات الأخيرة من حياة الكاتب البرتغالي الشهير خوسيه ساراماغو مع زوجته بيلار، قصَّة حب رومانسية في عمر متأخر.
استمر العمل في الفيلم أربع سنوات، خرج المخرج منها بحوالي 240 ساعة تصوير، لينتج لنا فيلمًا مدته ساعتان، وصل به إلى تصفيات الأوسكار.
يعني ذلك أنه استغنى عن 238 ساعة تصوير كاملة.. هل هذا جنون؟!
لكن في المقابل: من ذا الذي بوسعه مشاهدة أربعمائة ساعة تصوير، رغم ما قد يكون بها من مادَّة قيِّمة؟
وأكاد أجزم أن ذلك أصعب ما يواجه المخرج وهو قَيْد غرفة المونتاج، إنَّه يشعر وهو يستغني عن مادَّته المصوَّرة أنَّه يقتطع من لحمه قِطَعًا.
في كتابه القيِّم “النص المعنف” ينقل كاتبه عبد الدائم السلَّامي نصيحة جعفر بن يحيى البرمكي للكُتَّاب في قيمة الإيجاز: “إن استطعتم أن تكون كتبكم توقيعات فافعلوا”، ذلك أن التوقيع، وفق لسان العرب، هو إصابة جوهر الفكرة.
ماركيز الجميل يقول في كتاب له بعنوان “كيف تحكى حكاية”: يجب أن نتعلم الاستبعاد، فالكاتب الجيِّد لا يُعرف بما ينشره بقدر ما يُعْرف بما يلقيه في سلَّة المهملات.
والحقيقة أن الأمر لا يخص الكُتَّاب وحدهم، جاء في كتاب “البيان والتبيين” للجاحظ أنه قيل لعبد الله بن عمر : لو دعوتَ الله بدعوات. فقال: اللهم ارحمنا وعافنا وارزقنا! فقال له رجل: لو زدتنا يا أبا عبد الرحمن! فقال: نعوذ بالله من الإسهاب.
(3)
بالنسبة لي فإن أحلى ما تعلمته في مقتبل حياتي المهنية هو قيمة الإيجاز، قد أنجح أحيانا فيه وقد أفشل أخرى، لكن في الحقيقة تستهويني فكرة أن تكتب جملة ربما من خمس كلمات، بدلا من كتابة خمس جمل لتصل إلى نفس المعنى.
هذه الجملة القصيرة كأنها سهم مباشر يصيب الهدف، بديلا عن ألف سهم تحيط بالهدف، ولا تصيده.
واعترف أيضا أنني لم أشعر بمفهوم الاستغناء إلا على كِبَر، فقد كنت أحصر المعنى في التخلي عن كل ما هو غير مفيد، والحقيقة أن ذلك ليس باستغناء، فمن البديهي أن تتخلص من كل ما هو ضار أو غير مفيد، لكن المعضلة كلها في أن تستغني عما هو مفيد لصالح ما هو أكثر فائدة، وذلك لأن المجال لا يتسع للجميع.
لا تستطيع ترتيب أفكارك إلا إذا استغنيت عن بعضها.
في حضرة بعضهم كنت أستمتع استمتاعا لا يوصف بمجالستهم، أصفهم بمصانع أفكار متحركة، تجلس معهم، يحدثونك عن ألف فكرة وفكرة، وتندهش أنك وقعت في غرام كل أفكارهم.
البراء أشرف رحمه الله هو أحدهم، كنت أقول له دائمًا: تخلَّ عن بعض ما تفكر فيه وتحلم به، لن تستطيع أن تنجز أفكارك كلها، الحياة قصيرة. وحياته كانت قصيرة جدا رحمه الله.
المرء في حياته مضطر أن يفعل فعل المخرج، أن يستبعد بالطبع ما هو غير مفيد، ثم يبدأ في الاستغناء عن أفكار وأمور يراها جيدة، لكن هناك ما هو أهم منها، وطبيعة الأشياء أنه لن يستطيع إنجازها كلها.
ما رأيكم لو نجحنا في الاستعانة بفكرة الأولويات؟
الأولويات هي القتل الرحيم لأفكار مهمة هناك ما هو أهم منها.
يمضي اليوم الآن سريعا، لا ننجز خلاله ما تمنيناه، ذلك لأننا مشتتون بين ألف فكرة وألف عمل، نريد أن ننجز كل شيء، وليس بوسعنا أن نفعل، فنلجأ إلى حلٍّ وسط، مفاده أن ننجز من كل أمر شيئا منه، وفي النهاية لا نتم شيئا، وما نتمه لا يكون جيدا.
(4)
في المعتقل – وعلى قسوته – تكتشف أنك استطعت أن تحيا دون أشيائك كلها، تفتقدها بالطبع، لكنك في النهاية تعيش دونها، تحلم ربما بريشة ترسم بها كما اعتدت، أو بالكمان لتعزف عليه، أو بالكاميرا لتلتقط ما يحلو لك، أو بورقة وقلم تسجل وتكتب، تتمنى أن يحرموك من كل شيء إلا هذه أو تلك، فإذا خرجت من المعتقل لم تتعلم ورحت تخزن كل شيء.
في السفر يتكرر الأمر بصورة أخرى، تضع في حقيبتك فقط ما يلزمك، لكنك مثلي تنظر بحسرة إلى كل أشيائك الأخرى، يخيل لك أنك تحتاجها، وأنك لا تستطيع الاستغناء عنها، لكن الحقيبة لا تحتمل.
أما الموت فأمره غريب لمن يؤمنون مثلي بالآخرة، إنك ترحل دون أي شيء من أشيائك، هاتفك وما به، حاسوبك وما يختزن، صورك وأوراقك وكل أشيائك الخاصة وذكرياتك وما كدسته في سنواتك الطويلة، كلها لن تكون معك، ستكون عاريا تماما من كل ما تملك، هكذا فجأة يُسلب منك كل شيء، وأنت لن تدخل العدم، أنت فقط “تنتقل” إلى حياة أخرى، لها قواعدها وشكلها الذي لا نعرفه، لكن ما نعرفه أننا سنكون دون أشيائنا كلها، أليس ذلك أمرا مخيفا؟
(5)
قيل: إن في التخلي عن الأشياء قوة تفوق قوة التمسك بها. وهذا صحيح برأيي، وعلى الأقل لماذا لا نجرب؟
الفكرة في الأصل أن تمتلك الأشياء، ولا تجعل الأشياء تمتلكك..
وبما أنك محترف في العيش بالعالم الافتراضي، لماذا لا تدخل غرفتك وتضع كل أشيائك وأحمالك نصب عينيك، ثم تتخذ قرارك العظيم بالتخلي..
تبقى تفكر.. هذه؟ .. لا.. تلك؟ ..
أبشرك أن الأمر لن يكون سهلا، ولن تستطيع أن تنجزه في يوم أو اثنين، بل هو طريقة حياة، ويصبح شعارك التخلي والاختصار والإيجاز..
تبقى في هذه الدوامة بعض الوقت، لكني أعدك أنك ستنتشي بعدها، ستشعر أن السماء باتت صافية، وأن الطريق بات واضحا تماما، والهدف بات جليا لا تخطئه العين.
وانتبه لما قاله نيتشه: “من لا يستطيع التخلي عن شيء لن يستطيع الإحساس بأي شيء”.
وإذا لم يعجبك رجلهم فعليك برجلنا، يقول جبران خليل جبران: بدأت استوعب وأفهم الآن أن سعادتي تكمن في التخلي عن المزيد، لا الحصول على المزيد.
أمَّا الفقير صاحب هذا المخطوط فيقول لك: تخلَّ عما تستطيع أن تتخلى عنه، ودرّب نفسك عما لا تستطيع، وذكّر نفسك بفقه الأولويات، والأهم في ذلك كله ألا تتخلى عن روحك.