علامة استفهام 23: لماذا ترعبنا البدايات؟
(1)
كان ذلك قبل نحو ستين عامًا، من باب التفاؤل طهت أمي “رزًّا بلبن”، ألبستني الزي المدرسي الجديد، أمسك والدي بيدي واصطحبني إلى مدرسة الإمام الشافعي الابتدائية، على مقربة من بيتنا في شارع النهضة، ورغم أنه كان قد هيأني لذلك تماما، إلا أنني شعرت برهبة شديدة وأنا أدخل إلى عالم لن يكون فيه أحد من عائلتي، عالم أكبر حتى من السويس نفسها التي وُلِدْت وأعيش بها.
طابور الصباح، ضجيج الأولاد، صياح المدرِّسين، استعلاء التلاميذ الذين يكبروننا، السور الذي يحيط بالمكان، الحارس الواقف على الباب المغلق، كل ما حولي يثير في نفسي الرعب.
ينتهي اليوم الأول على خير، لكنني أكتشف أنني سأعود في الغد إلى نفس المكان، لا بأس فقد خبرته، لكن ما لم أخبره أن رهاب البدايات في حياتي لن ينتهي.
(2)
كنت أتردد على البوسنة تقريبا كل ثلاثة أشهر في انتظار أن تبدأ الحرب، فلما بدأت كنت بالفعل هناك، لكني ارتبكت، هذه أول حرب أقوم بتغطيتها كصحفي لم يَسمع به إلا أصدقاؤه ونفر قليل.
تماما مثلما ارتبكت وأن أسجِّل لراديو الشرق الباريسي تقريري الإذاعيَّ الأول..
تماما مثلما وقفت أمام الكاميرا لأول مرة، أتلفت يمنة ويسرة بعين زائغة كأنني في محاضرة ولست في تقرير تلفزيوني..
تماما مثلما أكتب كل مرة مقالي الأسبوعي هذا.. أكتب ثم أمحو.. ثم أقول لنفسي فلأتريث.. والمقصود بها فلأهرب..
تماما مثلما أبدأ في تصوير فيلم وثائقي جديد، وكأني أفعل ذلك للمرة الأولى في حياتي..
إنه رهاب البدايات الذي لا ينتهي.. يصيبنا كلما عزمنا على أمر جديد..
مدينة ننتقل إليها، أو بلد نهاجر إليه، أو وظيفة نلتحق بها، أو مشروع نُزمع العمل فيه، أو حتى زواج نربط فيه مصيرنا بشخص آخر.
في كل مرة، وفي كل بداية، نتجاهل كل خبراتنا في الحياة، صغرت أم كبرت، ونتخيل ونحن على مشارف الخطوة الأولى من أمر جديد أننا على شفا حفرة من النار..
تحدثنا أنفسنا أنه عالم مختلف، لم نكتشفه بعد، ولا نعرف قواعده..
نخشى أن نتورط، أن نكون غير قادرين على إتمام المهمة، أن نفشل، أن يتشفى الناس بنا، أن نجلد أنفسنا لوما على ما فعلناه، ومن ثم نبدأ في إسداء النصائح لأنفسنا: “فلنتمهل قليلا ولا نبدأ في الحال”، والحقيقة أنها مواعظ الشيطان، فالتمهل هنا هو الاسم الحركي لفكرة التأجيل، الذي يؤدي بنا في النهاية إلى إلغاء الفكرة من أساسها.
(3)
تقول الحكمة: قبل أن تبدأ يجب عليك أن تحسب حساباتك كلها، تفكر كثيرا وترسم خطة واضحة المعالم للطريق الذي تريد أن تسلكه، للمشروع الذي أنت مقدم عليه، للفكرة التي أنت بصدد تنفيذها.
لكن الحسابات لا تنتهي، إنك تطمع في مزيد منها حتى لا تخطئ، والذكي هو الذي يعرف أين يتوقف، هو الذي يدرك أن كثرة الحسابات سوف تدخله في مرحلة التردد والتشكك، هو الذي يدرك أن عليه بعد إنجاز الحد الأدنى من الحسابات أن يبدأ..
نعم، يبدأ مهما كان الأمر، ثم يصحح مساره لاحقا..
وهذا لا يفعله إلا شخص يؤمن بأن لا تجربة فاشلة، فإما أن يفوز المرء بما رغب، وإما أنه يخرج منها بدرس يعينه على بداية جديدة، درس حرم منه آخرُ رفض أن يبدأ، المهم أن تبدأ بأي شكل وبأي طريقة، فالمطلوب الآن أن تهزم مخاوفك، وأن تمضي.
نعم البدايات صعبة ..
الكُتَّاب بالذات يدركون ذلك.. يبذلون جهدا عظيما في إيجاد الجملة الافتتاحية لرواياتهم، يعتقدون أنهم إذا نجحوا سيسهل أمر الكتابة عليهم لاحقا.
الروائي الأمريكي مايكل تشابون يقول: إنه بمجرد أن عثر على السطر الافتتاحي لروايته “ووندر بويز” كانت بقية الرواية تقريبا مثل حصة الإملاء.
نعم.. ما إن تتغلب على البدايات حتى تنطلق في فضاء فسيح..
(4)
أنت خائف.. أليس كذلك؟
معك حق، لكن الفشل الذي تخشاه سيكون مصيرك إن لم تتقدم..
عندما نتوقف عن خوض البدايات فهذا لا يعني أننا في حالة جمود فحسْب، بل يعني أننا في حالة تراجع..
العالم يدور.. ليس عليك إلا أن تتقدم أو تتراجع.. لكن ليس متاحا أن تقف حيث أنت، تُراوح مكانك.
الذين يتحركون هم الذين يفوزون.. الجامدون في مكانهم يتراجعون.. تلك هي المسألة.
يقال: إن أفضل حل عند حلول الخوف أن تواجهه، حل ليس بسهل وليس بمستحيل، لكن لا خيار آخر أمامك سواه، تعامل معه بقوة وذكاء، اسمح له أن يهزمك مرة، لا بأس، طبيعتك البشرية تقر بضعفك، لكنها تقر بقوتك أيضا، تلك التي تدخرها بين جنبيك، فلماذا لا تلتقط أنفاسك وتستجمع شجاعتك وتقف وتواجه وتوجه له الضربة ضربتين؟!
(5)
البدايات.. ما أحلى البدايات!
تلك الإثارة التي تصاحبها، تلك الدهشة التي تنعشنا، هذا الدم الجديد الذي يجري في العروق، تدفق الأدرينالين، رؤية ما لم نره من قبل، لذة تجربة ما لم نمرُّ به، تذوق ما لم نذقه، أليس ذلك كله في حضرة البدايات.
أتترك هذا الجمال وتنصرف إلى الخوف؟! أينتصر الخوف على الجمال؟!
عندما تهرم مثلي، ستجلس وتستدعي ذكرياتك القديمة عن البدايات، سوف تسخر من خوفك الذي أصابك قبلها، ستتمنى لو تعود بك الأيام لتعود لهذه البدايات، لتكرر التجربة، ستعمل جاهدا على استرداد كل لذة من لذات البدايات، بحلوها ومرها، بنجاحها وفشلها، بعثراتها ونجاحاتها.
قم، “اعمل رزًّا بلبن”، وابدأ فيما أنت متردِّد فيه.