علامة استفهام 25: كيف تقاوم البعوضةُ الفيلَ؟
(1)
ماذا تفعل إذا أُجبرت على فعل غير أخلاقي؟
رفضك له قد يكلفك حياتك، وقبولك به يفقد آخرين حياتهم؟
ماذا إذا كنت مجرد مواطن بسيط، لا ناقة لك ولا جمل، لا تنتمي إلى أحد ..
لا أفكار لديك ولا معتقدات سوى إيمانك ..
هل هناك مساحة تكفي للمرء أن يقف بها بين الظلم والعدل؟
(2)
هذا الموقف تعرَّض له بالفعل فرانز جاجر شتاتر
فلاح بسيط، لم يسمع عنه أحد..
ليس عضوًا في حزب ولا مؤسسة ولا جماعة، ولا يضمه تيار سياسي ولا فكري، ولا ينتمي إلى أي أيديولوجية، لكنه مؤمن بعمق، يحب عائلته بجنون، لا حلم له سوى أن يعيش ويموت في أرضه، التي هي كأنها جنة من جنات الله على الأرض.
فرانز يقع في مأزق حقيقي حين تصله برقية استدعاء للانضمام لجيش هتلر، رفْضُها يعني أن يتعرَّض للإعدام، وقبولها يعني أن يشارك في الحرب، وهو لا يؤمن بأي حرب، يعتبرها جريمة ضد الإنسانية، جريمة أن تذهب لإزهاق أرواح آخرين طمعًا في أراضيهم وفي السيطرة عليهم بدعوى مصلحة الوطن.
أنا وأنت وجميعنا معرَّضون لهذا الموقف، بل نحن في زمن هذا الموقف. نجد أنفسنا في مفترق طرق خطير، نواجه أحيانًا خيارين: أن نطيع ونخسر أنفسنا، وأن نرفض ونخسر حياتنا، الرجل حسم أموره بقوة وبوضوح، وانحاز إلى الخيار الأخير.
(3)
أعترف أن “تيرانس ماليك” أجبرني على أن أبقى حبيس مقعدي حتى أنهي فيلمه العجيب “حياة خفية”، المستمد من قصة حقيقية جرت في الريف النمساوي عام 1939. دعك من جمال الصورة والموسيقى والأداء، المثير في الأمر بالنسبة لي تلك الأسئلة التي طرحها الفيلم، هذا الحوار الرائع الذي يفجر في الرأس ألف علامة استفهام: عن الدكتاتورية، والحرب، ومفاهيم الوطنية والخيانة، والأهم ماذا نفعل نحن البسطاء الذين لا حول لهم ولا قوة في مواجهة الحاكم الظالم، في مواجهة الديكتاتورية؟!
(4)
يقول فرانز مخاطبًا الأسقف الذي لجأ إليه:
“إذا كان الرب منحنا الإرادة الحرة، فنحن مسؤولون إذن عن أفعالنا وعما نفشل في فعله، صحيح؟..
إذا كان قادتنا غير جيدين، فهم إذن أشرار. ماذا يفعل المرء؟..
أريد إنقاذ حياتي.. لكن ليس بالكذب”.
بالإرادة الحرة يرفض الرجل الانصياع لحاكم ظالم، ينطلق في رفضه من موقف أخلاقي بحت، لا يريد المشاركة في أي نوع من الظلم، لا يريد أن يمنح الحاكم أي دعم حتى وإن كان قسمًا شفويًّا بالولاء له ينقذه من الإعدام ومن السجن، هو لا يريد أن يكذب، حتى في رفضه للظلم، يصر أن يستخدم أساليب أخلاقية.
ولأنه في زمن الديكتاتوريات تنقلب الموازين رأسًا على عقب، فإن الرجل الأخلاقي اتُّهم بالخيانة، وبأن موقفه يضرُّ أمن البلاد، وأنه أسوأ من موقف الأعداء.
ولمَّا لم يفلح ذلك في ثنيه عن قراره بعدم المشاركة في الحرب، لجأوا إلى الحرب النفسية، فقيل له بأنه أحمق، لا يعرف ما يفعل، ولا يعرف مغبَّة ذلك على نفسه وعلى عائلته، وأنه غير عقلاني، وغير منطقي، وأنَّ رَفْضَه لن يُغيّر الأحداث، لكنه سيوقع الضرر به.
لم يبهرني في هذا الفيلم المستمد من قصة حقيقية مثل هذا المشهد، حين يطلب منه محاميه بعد جولات التعذيب التي تعرض لها، وبعد أن صدر ضده حكم الإعدام، أن يوقع على ورقة ويقسم بالولاء لهتلر، يغريه بأنه سيتم نقله إلى الخدمة في مستشفى، وليس إلى خطوط القتال، وأنه ما إن يُوَقِّع حتى يصبح حرًّا، غير أن فرانز يرد عليه ببساطة: إنه حر بالفعل، وهو منطق لا يفهمه العبيد، فلو لم يكن حرًّا ما كان قادرًا على أن يتخذ قراراه بالرفض. تذكَّرت حينها كل المعتقلين الذين قالوا: لا، المعتقلون الذين هم أحرار.
(5)
وإذا كان هذا ما فعله الفلاح البسيط، فما الذي يمكن أن يفعله المثقف؟..
وإذا كان فرانز واجه ديكتاتورية سياسية، فإن كاستيليو واجه ديكتاتورية دينية..
رجل دين ديمقراطيٌّ يواجه رجل دين ديكتاتوريًّا!
كانت عبارات الكتاب تنزل على رأسي كالمطرقة..
عنوانه الأصلي هو “كاستيليو ضد كالفن” أو “الضمير ضد العنف”..
لكن مترجمه للعربية اختار له “عنف الدكتاتورية” عنوانًا.
والحكاية يرويها ستيفان زفايج، الروائي النمساوي الشهير، الذي أصابه الهلع من وصول النازية للسلطة عام 1933 وتحول ألمانيا إلى ديكتاتورية، فأراد أن يعبر عن خشيته من تبعات ذلك، ولأنه – كما جاء في الغلاف الأخير للكتاب – “يعرف تماما أن الدكتاتورية لا تطيق الصرخات، ولا تحبذ سوى هتافات التأييد، بل هي لا تتساهل حتى مع الصرخة الأولى، وتظهر ردة الفعل في تكميم الأفواه، يليها استئصال الأفواه وأصحابها، لذلك لجأ المؤلف إلى التاريخ، وألبس رأيه ثوبا من الماضي البعيد، وترك للقراء أمر استكشاف التشابه بين دكتاتورية الأمس وطغيان اليوم”.
والمسألة باختصار أن “جان كالفن” الفرنسي وصل إلى جنيف هربًا من القمع الوحشي الذي فرضته الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا عبر محاكم التفتيش، بدأ حياته المهنيَّة قسيسًا، وما لبث أن أصبح صاحب السلطة في جنيف، ثم انتشرت طريقته في عموم سويسرا، وفي دول في شمال أوروبا.
أما كاستيليو فكان من الشباب الثائر على التقاليد البالية، يؤمن بضرورة الإصلاح، الذي كان كالفن مُبَشِّرًا به. لكنه فوجئ بأن “مصلح” الأمس حين أمسك بزمام السلطة تمامًا، أصبح دكتاتورًا قمعيًّا لا يرحم، إلى حدِّ إحراق معارض له، فتحوَّل إلى إدانة هذه الدكتاتورية.
يا للهول، رجل دين، وكان إصلاحيًّا هاربًا من القمع الوحشي لمحاكم التفتيش، يتحوَّل إلى ديكتاتور، ما أغرب الإنسان وتحولاته!!
المهم أن صاحبنا كاستيليو وجد نفسه في مأزق ربما أشد من مأزق فرانز، فالمطلوب منه الآن، وبحكم الأخلاق، أن يحترم ضميره ويعارض هذا الديكتاتور الجديد، حتى وإن كان رجل دين مثله.
(6)
في الحقيقة أعجبني هذا التعبير: “البعوضة ضد الفيل”، وهي العبارة التي دونها كاستيليو بنفسه وهو يشرح الموقف لصديق له، و”كيف كان الأمر بالنسبة إليه في غاية الوضوح والمأساوية، وأي خصم هائل قد تحدى عندما اتهم كالفن علانية أنه بمكابرة متعصبة قتل إنسانا، وبالتالي اغتال حرية الضمير في حركة الإصلاح، لقد كان يدرك تمامًا منذ الساعات الأولى حين استل ريشته كرمح وخاض بها النزاع الخطير، كيف يغدو أعزل، وأنه سيخوض قتالًا عقلانيًّا صرفًا ضد سلطة الدكتاتور العنيفة والمدججة بالسلاح”.
ولأن صاحب الكتاب روائي فهو يحكي لنا بأسلوب سلسل ومثير في الوقت ذاته الآليات التي استخدمها الديكتاتور ليصبح ديكتاتورا، وهي تقريبًا نفس الأساليب على مر العصور، بل نفس ردود الأفعال للناس: انصياع لها، وجبن في مواجهتها، باستثناء من كان مثل كاستيليو، لديه “ضمير لا يلين، يسكن روحًا لا تهاب شيئًا”.
(7)
ينتهز المؤلف ستيفان زفايج الفرصة لينبهنا، وكأنه يضع يده على الجرح: “من اللحظة التي يتم فيها اللجوء إلى العنف بغية ضبط وتوحيد لون ذوي الآراء الأخرى، لا تعود الفكرة مثالية بل تغدو وحشية، حتى أنقى الحقائق وأطهرها، حين يتم فرضها بالعنف، تتحول إلى خطيئة ضد الذهن”.
ويستطرد في موضع آخر: “أينما أقدمت دولة على ضبط مواطنيها بالترهيب، تزهر تلك النبتة المقيتة: نبتة الوشاية الطوعية. وحيث يُسمح بالوشاية، أو بالأحرى حيث تغدو مرغوبة، يتحول بعض البشر الشرفاء إلى وشاة بسبب الخوف، لا لشيء إلا ليبعد التهمة عن نفسه”.
هذا المؤلف المولود عام 1881 يقول – وكأنه يتحدث عن حالنا اليوم -: هذه المعارضة القوية عدديا، تبقى جماعة متذمرة بلا سلطة، لأن أسباب الامتعاض لم تتحد وراء فكرة واحدة، وتبقى قوة كامنة، عوض أن تكون فاعلة. جمهرة تشكلت بالصدفة، لا تربح ضد جيش مسلح. استياء غير منظم ضد إرهاب منظم.
ثم يقرر الحقيقة:
لا يمكن لأي عصر أيا كانت همجيته، ولا لطغيان أيا كانت منهجيته، إلا أن يجد أفرادا يعرفون كيف يتملصون من القمع الجماعي، وكيف يدافعون عن حق المرء في قناعة ذاتية تقف ضد العنيفين المهوسين بفكرةٍ أحادية متسلطة، المستميتين في الدفاع عن حقيقة واحدة، هي حقيقتهم.
اللهم اجعلنا منهم.