علامة استفهام 27: كيف حاربت أمريكا “الإخوان الشيوعيون”؟
(1)
حتى لو كنت موهوبًا، حتى لو كنت من أشهر كتاب السيناريو في هوليود، فإنَّ مخالفتك لأفكار مجتمعك جريمة لا تُغتفر، وإن كنت لا تُصدِّقني عليك بمشاهدة فيلم “ترامبو” الذي أنتج عام 2015، ويحكي عمَّا جرى لجيمس دالتون ترامبو ورفاقه، الذين شملتهم قوائم سوداء تتهم أصحابها بأنهم يدينون بالشيوعية، فكان التخوين والسجن وقطع الأرزاق، لقد قررت أمريكا الديمقراطية أن تحارب الديكتاتورية بديكتاتورية أشد، والعجيب أني شاهدت في الفيلم قواطع مشتركة مع ما نعيشه من واقع.
(2)
كان ذلك بعد الحرب العالمية الثانية، حين انخرطت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في سلسلة من الاشتباكات السياسية والاقتصادية المعروفة باسم الحرب الباردة.
أثار التنافس الشديد بين القوتين العظميين مخاوف في الولايات المتحدة من أن الشيوعيين والمتعاطفين مع اليسار داخل أمريكا نفسها قد يعملون جواسيس للسوفييت، بما يشكل تهديدًا لأمن البلاد.
ومن ثَمَّ قرر ولي الأمر شن حملة هيسترية للتخويف من الشيوعية عبر كل المنابر السياسية ووسائل الإعلام المتاحة وقتها، حملة تُحَذِّر المواطنين الشرفاء من مغبَّة التأثير الشيوعي التخريبي، ومن أصحاب الأجندات الخارجية الذين اندسوا في صفوف هيئات التدريس والقادة العماليين والفنانين والصحفيين العاملين ضمن ما زعمت الإدارة الأمريكية أنه “برنامج الهيمنة الشيوعية العالمية”.
وفي التفاصيل: أنه في عام 1947 أوكلت هذه الإدارة إلى ثلاثة عملاء سابقين في مكتب التحقيقات الفيدرالي مهمة إصدار نشرة بعنوان: “الهجوم المضاد: النشرة الإخبارية للحقائق حول الشيوعية”،كانت مهمتها الإعلان عن أسماء الإعلاميين “الذين ظهروا في منشورات أو في تجمعات أو في التماسات ذات طابع يساري”.
ورغم أن جهاز سامسونج لم يكن متاحًا حينها، إلا أنه تم إرسال هذه النشرة إلى المديرين التنفيذيين والجهات الراعية للتلفزيون مع المطالبة بفصل المدرجين فيها على الفور ومعاملتهم كخونة، وقد وصل الأمر إلى أن أحد المذيعين المشهورين وقتها كان يستخدم النشرة لتحديد الضيوف الذين يجب استبعادهم من الظهور على الهواء.
أصاب القلق أصحاب القنوات التلفزيونية ووكالات الإعلان والرعاة بشأن التأثير السلبي الذي قد تحدثه هذه التكتيكات وغيرها على أعمالهم، فلجأوا إلى تعيين موظفين مهمتهم التحقيق والموافقة على كل كاتب أو مخرج أو ممثل أو أي شخص آخر يتقدَّم لشغل منصب إعلامي، للتأكد من أنه لا يحمل أي فكرة شيوعية أو أي مشاعر تتعاطف مع الشيوعيين.
(3)
لقد سيطر الحماس على الجميع، واحتاج الأمر إلى خطوة أبعد، فبادرت الإدارة الأمريكية إلى تأسيس ما عُرِفَ ببرامج الولاء، حيث يتحتم على الموظفين للحفاظ على مناصبهم أو ليتم تعيينهم ابتداءً أداءُ قسم الولاء للدستور، والتعهُّد بعدم الانضمام إلى أي مجموعة تدعو للإطاحة بالحكومة في المستقبل، بل ذهب البرنامج إلى أبعد من ذلك، فتضمن جلسات استماع يدعى إليها أي شخص يُتَّهم بعدم الولاء، ويتم التحقيق معه.
وتفيد المعلومات أنه تم التحقيق بالفعل مع حوالي أربعة ملايين موظف فيدرالي، تم سؤالهم عن كل شيء، حتى عن الكتب والمجلات التي يقرؤونها، وما هي النقابات والمنظمات المدنية التي ينتمون إليها، وما إذا كانوا يترددون على الكنيسة.
كما تم وضع المئات من كُتَّاب السيناريو والممثلين والمخرجين على القائمة السوداء بسبب الشك في أفكارهم السياسية، وفقد آلاف المدرِّسين والعمَّال والبحارة والمحامين والأخصائيين الاجتماعيين وظائفهم عندما رفضوا القسم، وفُصِلَ آلاف آخرون عندما اتهموا زورًا بأنهم شيوعيون.
كما قامت مكتبات بسحب كتب اعتُبرت يسارية من رفوفها، تضمنت كلاسيكيات مثل: روبن هود، والعصيان المدني لهنري ديفيد ثورو، وعناقيد الغضب لجون ستاينبك.
(4)
ثم اتسع الأمر أكثر، وأصبح من السهل اتهام أي شخص معارض لسياسات الحكومة أو مطالب بإجراء إصلاحات اجتماعية بالشيوعية، حتى ولو لم يكن فعلا شيوعيا، وشملت الاتهامات قادة النقابات والفنانين وقادة الحقوق المدنية والمتظاهرين المناهضين للحرب، باختصار ووسط هذه الجلبة ومحاكم التفتيش الفكرية كان يُمكن أن يُتهم أي شخص بأنَّه شيوعي وجاسوس سوفيتي.
مجلس النواب الأمريكي تقدم بخطوة إضافية وقرر تشكيل “لجنة الأنشطة غير الأمريكية”، التي بدورها عقدت سلسلة من جلسات الاستماع العلنية للمخرجين والكتاب والممثلين الذين اشتبه بهم أو اتهموا بأنهم شيوعيون.
وقد أدت هذه الجلسات إلى إرسال مجموعة سميت بقائمة “هوليود 10” إلى السجن عندما رفض أصحابها الإدلاء بشهادتهم، وكان من ضمنهم ترامبو ورفاقه الذين حكى الفيلم حكايتهم.
وحتى الأشخاص الذين لم تتم إدانتهم بأي جريمة غالبًا ما كان يتم إدراجهم في القوائم السوداء، وبالتالي لم تكن أي شركة تقبل توظيفهم.
الأسوأ – ونتيجة مشاعر الخوف التي سادت الجميع – أن أصبح الكثير من الناس على استعداد للشهادة ضد الآخرين، حتى ولو كانوا من الأصدقاء، حتى وإن كانوا يعرفون أن من يشهدون ضدهم أبرياء، وذلك تجنُّبًا للاشتباه بهم.
(5)
وصل الجنون حول التهديد الشيوعي الداخلي والذي سُمِّيَ وقتها بالذعر الأحمر إلى ذروته بين عامي 1950 و 1954، عندما أطلق السناتور جوزيف مكارثي، وهو جمهوري يميني، سلسلة من التحقيقات التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة حول الاختراق الشيوعي المزعوم للحزب ووزارة الخارجية والبيت الأبيض والخزانة، وحتى الجيش الأمريكي.
وخلال أول عامين من حكم أيزنهاور، زادت إدانات مكارثي والترويج للخوف من الشيوعيين، من مناخ الخوف والشك في جميع أنحاء البلاد، فلم يعد يجرؤ أحد على الاشتباك مع مكارثي أو مخالفته خوفًا من وصفه بأنه غير وطني.
وسعى المسؤولون المنتخبون من كلا الحزبين الرئيسيين إلى تصوير أنفسهم على أنهم معادون مخلصون للشيوعية، وقليل من الناس فقط هم من تجرأ وانتقد التكتيكات المريبة المستخدمة في اضطهاد المشتبه بهم، والتي مسَّت بشكل كبير حرية التعبير والحريات المدنية الأخرى، وتأثرت بها حياة الآلاف من المتعاطفين مع الشيوعيين المزعومين، الذين طاردهم القانون، وتم عزلهم عن أصدقائهم وعائلاتهم وطردوا من وظائفهم.
(6)
ووسط هذا المولد المقام، دفعت “لجنة الأنشطة غير الأمريكية” التابعة لمجلس النواب إلى هوليود بعضو كونغرس جمهوري، شاب يدعى ريتشارد نيكسون، أخذ يسأل مديري الإستوديوهات الكبرى: لماذا لا تنتجون مسلسلات تليفزيونية وأفلامًا معادية للشيوعية؟
استجابت الإستوديوهات بسرعة بعدة أفلام لعبت دورًا في تأجيج مشاعر الخوف من الشيوعية وخطرها، فلم تسلم حتى أفلام الخيال العلمي من الإسقاطات على الخطر الشيوعي.
وفي فبراير شباط من عام 1950، ألقى مكارثي خطابًا قال فيه: إنه حصل على قائمة بأكثر من 200 متسلل شيوعي معروف يعملون داخل حكومة الولايات المتحدة، وعلى الرغم من أنه لم يقدم أي دليل، إلا أن اتهاماته تسببت في التحقيق مع العديد من خصومه السياسيين.
(7)
ولأن الظلم ينهار عادة وهو في أوج قوته، فقد صعَّد المناوئون لسياسات مكارثي من نضالهم ضد كل القيود التي تَحُدُّ من الحريات الفكرية والمدنية وضد سياسات التخوين ومحاكم التفتيش.
وبالفعل اضطر مكارثي أن يتوقف عن ملاحقة المعارضين بدعوى أنهم شيوعيون، خصوصًا بعد أن صوَّت ضدَّه مجلس الشيوخ في عام 1954، وأدين بالفساد، وعزل الرجل نفسه، ومات مدمنًا على الخمر.
وأصدرت المحكمة العليا العديد من القرارات التي قيدت الأساليب والطرق التي تتبعها الحكومة في حربها المزعومة ضد الشيوعية.
في غضون ذلك كان صديقنا ترامبو، وشريحة كاملة ممن وقع عليهم الأذى يستردون أنفاسهم ويُصَعِّدون من ضرباتهم.
رواية “سبارتكوس محرر العبيد” التي ألفها هوارد فاست وهو في السجن متهمًا بالشيوعية يقرر الممثل كيرك دوغلاس أن ينتجها فيلمًا، وأن يضع اسم ترامبو كاتبًا للسيناريو على إعلانات الفيلم في تحدٍّ صارخ للقوائم السوداء التي تحظر التعامل مع ترامبو وأمثاله.
المفاجأة أن الرئيس الأمريكي المنتخب حديثا جون كنيدي يعلن تأييده للفيلم، فيسهم ذلك الحدث في تفكيك حملة الإرهاب الفكري، وفي إلغاء القوائم السوداء، ليلملم ضحاياها جراحهم، ويشرعون في إعادة بناء حياتهم المهنية من جديد.
لقد انتهى زمن محاكم التفتيش الفكرية، وسقطت كل ادعاءات الذين روجوا لسلب الحقوق المدنية بدعوى الوطنية الزائفة، وتفككت كل الادعاءات وانهارت القوائم السوداء.
(8)
بليغٌ قولُ ترامبو وهو يتلقى التكريم ويحظى بالأوسمة.
بليغ قوله: “إن للمكارثية ضحايا فقط، وليس أبطالًا”.
بليغٌ قوله: إن القائمة السوداء جعلت من الجميع ضحايا، أولئك الذين التزموا بمبادئهم، ففقدوا وظائفهم، وأيضًا أولئك الذين تنازلوا عن مبادئهم للاحتفاظ بوظائفهم.