(1)
مم تشكو؟
كان نشيطاً جداً ومتحمساً دائماً، يحب الحياة بكل حواسِّه، ويعمل بجدٍّ بكل طاقته؛ لذا كان مشهده مؤلماً وقد لفَّ الأطباء جسمه النحيل كله بالأربطة بعد أن غمروه بالدهانات الطبية. فلما اشتد المرض على صديقي المصور الفنان، والذي شاركني شطراً من رحلاتي الصعبة؛ قال لأصدقائه الحاضرين: افعلوا أي شيء! المهم ألا أموت، حتى لو اضطررت لأن أعيش على هذه الصورة.
للأسف؛ لم أكن حاضراً هذا الموقف، لكنه ظل في مخيلتي هذه السنين كلها، فكلنا هذا الشاب الفتيُّ رحمه الله، نشتكي ونتبرم في حياتنا اليومية ألف مرة، من دراستنا، من رئيسنا في العمل، من شريكنا في الحياة، من قلة المال، من كل شيء وأي شيء، من قائمة لا تنتهي.
فإذا ما داهمنا خطب وانقلبت أحوالنا رأساً على عقب، وشعرنا بأننا على وشك أن نفقد حياتنا؛ دعَونا الله أن ينجينا، حتى وإن كان الثمن هو أن نبقى على تلك الحال التي كنا نشتكي منها، لقد بات كل ما نريده أن نبقى على قيد الحياة.
(2)
ما معنى النجاة؟
عندما تخوض معركة -سواء أفرضت عليك أم أنك اخترتها- فيجب أن تكون موقناً بأنك حتى وإن فزت فسوف تخسر شيئاً ما، جرحاً هنا، أو خدشاً هناك، وربما أهونها ملابسك الممزقة.
لذا؛ فإن العبرة ليست بالنجاة بمعنى تجاوز الخطر، ولكن العبرة بماذا ستخسره إن فزت في المعركة، العبرة بهذا الشخص الذي سيكون بعد النجاة، من هو؟ وكيف هو؟ مرة أخرى؛ بمعنى هل خسارته محصورة في أشياء هامشية: “جرح هنا أو خدش هناك”؟ أم إن خسارته فيما هو أثمن وأهم؟
الإجابة الآن سهلة؛ ستقول ليس مهماً ماذا سأخسر ومن سأكون، المهم أن أعبر الأزمة، أن أتجاوزها، بعدها أقبل أن أكون على أي شاكلة. لكن بعد أن يحدث ذلك، وبعد أن تنجو، وبعد أن تتخلص من هذه الضغوط التي أثقلت كاهلك، وحرمتك الرقاد؛ سيكون لك رأي آخر.
لطالما أدهشني قول الله لفرعون وكأنه عز وجل يتهكم منه: “فاليومَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ”؛ فأيُّ نجاة وقد مات؟ وما قيمة نجاة البدن وقد هلكت الروح؟ نفس الأمر في كل معركة، أي نجاة إذا هلكت الروح بصورة أو بأخرى؟ ما الفائدة في أن تنجو ببدنك وتفقد أهم شيء؟
(3)
ما الخسائر التي لا تُحتمل؟
أن تفقد شجاعتك، أن ينتابك الهلع ويتحكم في كل تصرفاتك، صحيحٌ أن الخوف والقلق مشاعر طبيعية، لا يمكن أن تتجاوزها، لكن المبالغة فيها أمر غير طبيعي، وستشعر بعواقب ذلك بعد نجاتك.
فإذا فقدت شجاعتك فلن يكون بوسعك أن تفخر بنفسك بعد المعركة، ستَكره حتى أن تتأمل وجهك في المرآة، لن تستطيع أن تنظر في عينيْ امرأتك، في عيون أطفالك، لن تستطيع أن تجلس وتحكي لأحفادك كيف كنت شجاعاً صابراً مؤمناً وأنت في أشد أهوال المعركة، فالحقيقة أنك كنت جباناً، مصاباً بالهلع.
الخسارة التي لا تُحتمل أن تفقد أخلاقك وقيمك، فتشمت في خصمك وقد أصيب بالداء، تسخر منه، تشهِّر به، وتعايره في المعركة التي ساوى فيها عدوكما بين الفقير والغني والحاكم والمحكوم.
الخسارة أنك تمرّ بالمعركة ولم تتطهر، أنك خرجت منها تحمل نفس الآفات التي كنت تحملها قبلها، الخسارة التي لا تحتمل أن النار لم تطهرك، فما زلت أنت كما أنت، وكما كنت قبل المعركة، بنفس عيوبك ونواقصك، ما زلت تسخر من الآخر وتعاديه، المختلف عنك معتقداً أو لوناً أو فكراً أو حتى مالاً.
الخسارة أن تمرض روحك، العدو يستهدف جسدك، فإذا بك تسلمه روحك، فتصبح ضعيفاً منهزماً، فتخرج من المعركة بجسد صحيح، وروح معلولة. هذه خسائر لا تُحتمل.
(4)
كيف السبيل إلى النجاة؟
كنت أجلس مرة في أحد مقاهي سراييفو حين لاح لي خاطر؛ ماذا لو كنت قد عرفت أنني لن أموت في هذه الحرب التي عاصرتها قبل ما يزيد على ربع قرن، وأنني سأعيش، وسأجلس أحتسي الشاي والقهوة في هذا المكان، أتأمل في المارِّين، وأستمتع بما حولي من حُسن؟ ماذا كان سيتغير من سلوكي حينها لو كنت أعلم ذلك؟
أظن أنني لو كنت موقناً بذلك لكنت اتخذت قراراتي بهدوء، وبراحة بال، فلا أنفعل على مَنْ حولي، ولا أعيش حالة الاضطراب، ولكنت تعاملت مع ما يجري باعتبار أنه “حتى هذا المرض سيمرّ”، لسيَّرْتُ حياتي قدر المستطاع كما اعتدت أن أسيِّرها. لذا؛ فإن الحكمة كلها هي أن تتمكن من أن تتعامل الآن وكأنك بلا شك ستنجو.
لا بأس في بعض القرارات القاسية؛ اعزل جسدك قدر ما استطعت، وتأقلم مع العزل ولا تشتكي منه كثيراً، انتهزها فرصةً، صِلْ ما انقطع سابقاً، لكن المهم أن تُبقي روحك حرة منطلقة، غير معزولة، واعلم أن الخيال نعمة من نعم الله، أطلقه هو الآخر، حتى يحلق بعيداً كما شئت، عِشْ هناك، وإن كنت هنا.
امزح كلما استطعت، ليس استهتاراً بالمصيبة، وليس استخفافاً بالآخرين، ولكن تهويناً على نفسك، وثقةً بها، وبمن سينجيك.
(5)
العاصفة.. هل من فوائد؟
يقول الروائي الياباني هاروكي موراكامي في روايته الشهيرة “كافكا على الشاطئ”: في لحظة انتهاء العاصفة لن تتذكر كيف نجوت منها، لن تتذكر كيف تدبرت أمرك لتنجو، ولن تدرك هل انتهت العاصفة أم لا. ستكون متيقنًا من أمرٍ واحدٍ فقط: حين تخرج من العاصفة لن تكون الشخص نفسه الذي دخلها، ولهذا السبب وحده كانت العاصفة.
أيتها “الكورونا” فلتُخرِجي أفضل ما فينا، ولتمحُ عاصفتك أسوأ ما بنا، ولتعلِّمينا كيف نتجاوز في حياتنا عن معارك جانبية لا طائل منها، وندفع بطاقتِنا في معركتنا الرئيسية في الحياة.
أيتها “الكورونا” سوف ننجو، سننقذ أرواحنا، سوف نصبح أشخاصاً مختلفين، سوف نتغير للأفضل كثيراً، وعندها نصبح جديرين بالحياة، سنعمل بنصيحة جلال الدين الرومي: “عندما تتخطى مرحلة صعبة من حياتك أكمل الحياة كناجٍ، وليس كضحية”. انتهى الآن وقت الكلام السهل، وبدأ وقت العمل الصعب الذي وحده سيميِّز بين الخبيث والطيب.