علامة استفهام 4: هل حقا سيكون كل شيء على ما يرام؟
(1)
“تفاؤل المرء في أوقات كهذه ينم إما عن انعدام أي إحساس أو عن بلاهة فظيعة”؛ (جوزيه ساراماغو).
كنت أرتعد وأنا أتوقع اعتقالي، مجرد عبور الفكرة أجواء رأسي يصيبني بالارتباك، لكن ما إن حدث ذلك حتى قلت لنفسي ليس بيدي الآن أي شيء يمكنني أن أفعله، لا لنفسي ولا لأهلي، وبالفعل هدأتُ وغمرني شعور بطمأنينة غير عادية، على رغم رهبة الموقف.
حرت فترة في تفسير ما جرى، كيف أقلق قبل وقوع المصيبة، ثم عند وقوعها أطمئن؟ وكان تفسيري هكذا: في انتظار أن تقع كنت في حيرة شديدة إزاء ما يجب فعله لتلافي الأمر أو للتعامل معه، لقد درست الوضع من كل جانب، أمامي الآن سيناريوهات متعددة وأنا حائر وأتخبط بينها، وأخشى أن أخطئ في اتخاذ قرار بشأنها، مما قد يكلفني ثمناً باهظاً؛ فلما وقع ما وقع أدركت أن زمن التفكير والفعل قد انتهى، ليس بيدي الآن أي قرار يمكن أن أتخذه، وسلمت أمري لله، وحينها شعرت بالاطمئنان.
هل الأمر على هذه البساطة؟ لا أعلم، لكن ما أعلمه أن هذه الطريقة ظلت تعمل معي طوال الوقت؛ فعندما تلوح عاصفة ما أسأل نفسي: هل من أمر يمكن أن أقوم به؟ فإذا كانت الإجابة: لا لقد قمت بكل شيء؛ فحينها يهدأ بالي وكأن لا شيء يجري.
لكن ذلك لم يمنع سيل الأسئلة: ما الذي أنقذني (نفسياً) هنا؟ هل هو التفاؤل بما يمكن أن تصير إليه الأمور، ولذا لم أكترث كثيراً؟ وهل يمكن بالأساس أن أسمي هذا تفاؤلاً؟ وماذا لو كنت من أنصار “ساراماغو”، فتشاءمتُ حتى أثبت على الأقل بيني وبين نفسي أن لدي إحساساً، وأنني لا أعاني البلاهة؟
أظن أن مفهوم التفاؤل مرتبك هذه الأيام، ومحل اختلاف مثل كل المفاهيم التي لدينا، والتي كنا نعتبرها بديهيات، فـإذا بنا الآن نتحاور بشأنها ونختلف حولها حدَّ السماء.
وفي كل الأحوال؛ فإني مبدئياً مختلف مع “ساراماغو” في مقولته، ومتفق مع نورمان كازنس حتى النهاية في رأيه أن “الأمل لا علاقة له بالمنطق”.
(2)
“والذي ما زال يضحك.. لم يسمع بعدُ بالنبأ الرهيب”؛ (برتولت بريشت).
المتفائل لا يظن أن العالم بحالة جيدة، هو يعترف تماماً بالواقع المزري، بل يقر بإمكانية أن يتطور إلى الأسوأ، فلماذا يسخرون من المتفائل؟ لماذا يدّعون أنه لا يعلم شيئاً؟ لقد سمع المتفائل فعلاً بالنبأ الرهيب ولم ينكره، وهو يعترف بأن الشر والأذى أمر محتمل، ورغم ذلك فهو ما زال مصراً على أن يضحك عن سبق إصرار وترصّد.
كل ما في أمر المتفائل أنه يتحكم في اتّزانه، ويضبط انفعالاته، ويعمل على تقليل الأضرار ما استطاع، ولا يؤمن بعصا سحرية قد تقلب الأمور رأساً على عقب، لكنه يدرك في الوقت ذاته أن الواقع ليس قدَراً حتمياً، وأنه قابل للتغيير؛ وربما هنا مصدر تفاؤله.
المتفائل ليس غبياً ولا يتشبث بأعلى درجات الآمال لأنه يدرك ببساطة أن ذلك قد يأتي بنتيجة عكسية تماماً، بل يضع أمامه أسوأ السيناريوهات المحتملة، ويقول: ثم ماذا بعد؟ ومع الأخذ في الحسبان أن هذه السيناريوهات في الأغلب لا تقع؛ فهي لا تقع غالباً إلا في أدمغتنا.
إنه يعمل بنصيحة مارك مانسون ويحاول أن يتقن “فن اللامبالاة”، ويدرك “أن الحل يكمن وراء تقبّل حدود إمكانياتنا وإدراك مخاوفنا، ومواجهة الحقائق الموجعة بجرأة ومثابرة”، وأن “الألم يساعدنا في رؤية ما هو جيد لنا وما هو سيئ، إنه يساعدنا على فهم حدودنا وعدم تجاوزها، والمعاناة هي الدافع للتغيير”.
إنه يضع نصب عينيه قول مارك: “أنت عظيم حقًا، لست عظيماً لأنك اخترعت تطبيقاً من أجل هاتف آيفون، ولا لأنك تمكنت من إنهاء دراستك قبل الآخرين؛ أنت عظيم بالفعل لأنك قادر على مواجهة ما لا نهاية له من التشوش، ومواجهة الموت المحتوم”.
مَن ذا الذي يعتقد أنه قادر على المرور بالحياة الدنيا دون جروح؟ من يظن نفسه ذاك الذي يؤمن بأن بوسعه أن يتجنب الخسائر، أو أن عالمنا هو مكان آمن؟ فلمَ الجنة إذن؟ ولأن المتفائل غير ذلك؛ فهو يدرك تماماً كيف يتعامل مع الشدة، ويعرف كيف يعيش في زمن الكوارث والمصائب.
بالتأكيد فإن التفاؤل الغبي مرفوض، أن تعتقد أن الأمر هين، وأن كل شيء سيكون على ما يرام بمعنى أن لا خسارات، وأن الأمور ستظل عادية، وأن ما يجري ليس سوى عارض ما يلبث أن يزول، نعم سيزول ولكن بعد أن ندفع بعض الأثمان، ونحن مستعدون للدفع، ولأننا متفائلون فإننا نحاول تقليل الخسارات وزيادة النجاحات؛ ذلك الأمر الذي لا يمكن حدوثه لو انْحزنا للمتشائمين.
(3)
“أنت تعرف أن الحياة قميئة وسيئة، فلماذا تواصل الأمل بها؟”؛ (غسان الكنفاني).
التفاؤل متهم بدعوى أنه يدفعنا إلى التراخي، متهم بأنه يشبه المخدر، يدغدغ مشاعر المكلومين، ويعدهم بغد أفضل، ثم “ألست ترى أن التشاؤم هو الشجاعة؟ ألست ترى أن التفاؤل هو كذب وهروب وجبن؟”، والكلام للكنفاني. وهو على عكس ما يراه جبران خليل جبران من أن “المتشائم لا يرى من الحياة إلا ظلها”.
كيف يخوض المتشائم معركة هو موقن أنه سيخسرها؟ أو بحسب دوايت أيزنهاور فإنه لم يسبق للتشاؤم أن فاز بأية معركة. ما جدوى التشاؤم؟ لو يدلني أحد على جدوى أن أقضي أيامي في هلع، أن أستنزف طاقاتي كلها في الحسرة على ما جرى وما سيجري، ألّا أرى إلا سواداً، ألّا أسمع إلا لمن يقول: لقد هلكنا؟
(4)
“السقوط يبدأ داخل النفس وسقوط الجسد آخر خطوة”؛ (أسامة أنور عكاشة).
لطالما اعتبرت نفسي شخصاً آخر، ومطلوب مني أن أقوده وأرشده، باللين والدلال أحياناً وبالتعنيف أحياناً أخرى، وهكذا حتى أمرّ بالأزمة، أي أزمة؛ فقد أيقنت أنه لا جدوى من انتظار المساعدة من خارجي، المساعدة تأتي من داخلي.
التسليم بالأمر الواقع غير الاستسلام له، يتحتم علينا أحياناً أن نسخط، أن نركل الواقع، لماذا نكون شجعاناً في مواجهة الأنظمة الظالمة، وجبناء في مواجهة الواقع وما يدخره لنا المستقبل؟ هل لأن المستقبل شبح لا نعرف شكله ولا هويته؟ ربما.
كلنا نواجه في فترات من حياتنا العتمة، الفائز منا من يعرف ماذا عليه أن يفعل عند حلولها، الفائز من يفهم أن المثابرة والأمل هما سلاحنا في الأوقات الصعبة.
سنقرأ الكلام وتنتابنا الحماسة، ثم ما نلبث أن ننهار مع تدفق الأخبار. لا بأس، سنعيد التسلح بالأمل والمثابرة مرة أخرى، مثل كل الجنود في أي معركة شريفة، لا يستسلمون أبداً.
(5)
هل حقاً كل شيء سيكون على ما يرام؟
نعم إذا أدركنا أن التفاؤل وقت الجائحة حكمة لا حماقة.