علامة استفهام 9: ماذا تفعل وأنت في انتظار المخلِّص؟
(1)
التقيته المرة الأولى عندما كنت مشاركا في مؤتمر صيفي بالمركز الإسلامي في ميونيخ بألمانيا، كان ذلك تقريباً من عام 1985، لفت نظري وهو يقضي النهار كاملاً أمام طاولة عليها بضع أوراق تدعو الناس للتبرع، منشوراته تحمل أخباراً عن أزمات الناس في إفريقيا وغيرها، يتحدث بحماسة واستفاضة عن كل أزمة من تلك التي يعرض أمرها، ويبذل جهداً شديداً في إقناع زائريه بالمساهمة بأي مبلغ في حوزتهم.
عندما تحدثت معه عرفت أنه طبيب، ودُهشتُ لمبادرته، وخجلت أن أقول له ماذا تتوقع والحضور أغلبه طلاب وعمال، ثم ماذا ستفعل هذه الماركات الألمانية القليلة التي تجمعها من المشاركين لحل مصائب الناس التي عجزت عنها الدول؟ لكني آثرت الصمت، فقد بدا متحمساً للأمر كثيراً.
لاحقاً وفي مناطق كثيرة من التي زرتها بحكم عملي، كنت إما ألتقيه أو أسمع أنه مر من هنا، كوسوفو، ألبانيا، البوسنة والهرسك، جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، البلقان، بعض الدول في إفريقيا.
تمر السنون، وتلك الطاولة التي كان يقف أمامها الطبيب دون حرج، تكبر حتى تصبح واحدة من أكبر مؤسسات الإغاثة في العالم، بل شريكاً للمفوضية الأوروبية للمساعدات الإنسانية، تنفق ملايين الدولارات على مناطق المنكوبين وضحايا الحروب والأزمات من الأموال التي تجمعها لهذا الغرض.
حكاية الدكتور هاني البنا مع هيئة الإغاثة الإسلامية التي أسسها مع مجموعة من أصدقائه حتى باتت هذا الصرح الضخم، تذكرني بحكاية هذه السيدة المولودة في سكوبيه بمقدونيا، فما إن بلغت السابعة والثلاثين من عمرها حتى ارتدت رداء بسيطاً مصنوعاً من القطن الأبيض ومطرزاً باللون الأزرق، وقررت أن تنتقل لتقيم في مدينة صفيح في كالكوتا، تدرس وتعمل على مساعدة المحتاجين.
في أحد الأيام وجدت في طريقها امرأة تصارع الموت على رصيف الشارع، عملت على نجدتها ثم انتهزت الفرصة لتبدأ حملة للضغط على سلطات المدينة للحصول على مبنى قديم لتستقبل فيه من هم على فراش الموت وترفض المستشفيات استقبالهم.
كبر نشاطها فافتتحت دور أيتام ومراكز للمصابين بالجذام والمصابين بأمراض عقلية والأمهات العازبات ومرضى الإيدز، لقد بدأ نشاطها في الهند، إلا أن اسمها بدأ يعم العالم اعتباراً من الستينيات، وامتدت أعمالها الخيرية لتشمل كل قارات العالم، إنها الأم تريزا، الحاصلة على جائزة نوبل.
(2)
عندما تحل على المجتمع مصيبة ما أو يمر بأزمة عاصفة، فإن الناس تتفاوت في تعاملها مع الأمر تفاوتاً صارخاً، هناك من تحلو له الفرجة دون أن يفعل أي شيء، يبقى جالساً هكذا يمصمص الشفاه، ويندب حاله وحال الناس، ويتحسر على ما يجري، وهناك من يغريه إسداء النصائح والتنظير، فيقول للآخرين ما يجب أن يفعلوه وما يجب أن يتجنبوه دون أن يقدم هو على شيء، وهناك من يتملكه اليأس والإحباط تماماً، وهو على قناعة بأن ليس في وسعه ما يمكن فعله، وخلال ذلك كله يمكن للمجتمع أن يستحضر الماضي وأمجاده، وأن يوقظ أبطاله القدامى، يخرجهم من قبورهم ومن ملفات التاريخ، ويتغنى بما فعلوه، وكأنه يريد أن يقول لست سيئاً إلى هذا الحد.
إجمالاً يستسلم الناس، يتعاملون على أنه أمر واقع لا فكاك منه، وينتظرون أن يخرج من بينهم من يخلصهم مما ألمَّ بهم، ذاك الذي سيدافع عن المظلومين، ويطارد الفاسدين، ويرد الحقوق، ويحقق العدالة، إنهم ينتظرون الزعيم القوي، ينتظرون المخلِّص.
(3)
لعلك سمعت عن عبد الله بن ياسين، هو أحد مشايخ المالكية بمدينة القيروان، في منتصف القرن الخامس الهجري دعاه شيخ قبيلة جُدالة الساكنة جنوب موريتانيا ليجدد إسلام أهله، استجاب الرجل، لكنه قوبل برفض عارم من رجال القبيلة، وطرد شر طردة.
لم يستسلم الرجل، بل أرسل إلى شابين كانا قد تجاوبا معه سابقا، هذان الشابان أرسلا لاثنين كانا قد سمعا أيضًا عن الشيخ، والأربعة أرسلوا لمن اعتقدوا أنهم سوف يستجيبون لدعوتهم حتى وصل العدد إلى خمسة وعشرين شابًا، واستمر نشاط الشيخ إلى أن وصل العدد إلى ألف من الشباب، فوزعهم على نحو مئة خيمة، كمرابطين دفاعاً عن الدعوة.
ثم قرر أن يخوض في الصحراء، داعياً الناس إلى ما يؤمن به، اخترقوا الجزائر والنيجر وجنوب السنغال، واستمر في الدعوة والتحرك في أكثر من ثمانية بلاد إفريقية وانتهى إلى تكوين دولة المرابطين، تلك التي حكمت بين القرنين الخامس والسادس الهجريين، وامتد سلطانها من جبال أطلس بالمغرب العربي إلى موريتانيا وحوض نهر السنغال وبحيرة تشاد والأندلس.
“نحن لن نقتلكم، لكننا سندفعكم إلى الجنون، من الآن فصاعداً، أنتم لم تعودوا سجناء، بل أسرى نفعل بكم ما نشاء”، لو كنت شاهدت فيلم “ليلة الاثني عشر عاماً” لمخرجه ألفارو بريخنر لكنت سمعت هذه العبارة الصادرة من الضابط إلى موخيكا ورفاقه، وهو يعتقلهم هناك على الجانب الآخر من العالم في أورغواي.
خوسيه موخيكا، يساريٌّ بائع للأزهار، يخوض نضالاً من أجل شعبه بعد أن تدهورت الأوضاع الاقتصادية في بلاده إلى أدناها وعمَّ الفساد والظلم، فإذا بالأمور تزداد سوءاً، وإذا بانقلاب عسكري يقع عام 1973، ويزج بالرجل ورفاقه في السجون، يقبع فيها اثني عشر عاماً، يتعرض خلالها لصنوف لا تطاق من التعذيب، يسقط الحكم العسكري عام 1980، يُفرَج عنه، يواصل نضاله السياسي ويصبح رئيساً لبلده عام 2010.
يصر الرجل على ضرب أمثلة في التمسك بالمبادئ في اليسر كما كان في العسر، يتنازل عن 90% من راتبه، يرفض أن يعيش في القصر الرئاسي، يقطن في بيته الريفي مع زوجته دون خدم، يقود سيارته بنفسه في شوارع بلده دون حراسة، على الرغم من تعرضه لمحاولات اغتيال.
(4)
ما لا يدركه اليائسون أن عبد الله بن ياسين وخوسيه موخيكا كانا رجلين عاديين جداً، ما كانا يتمتعان به من ملكات هي نفسها التي يتمتع بها كل منا بشكل أو بآخر، لكننا لا نريد أن نعترف بذلك، لأن هذا يكلفنا الكثير، يكلفنا أن نناضل، ونحن لا نريد أن نناضل، نحن نريد أن نظل يائسين، اليأس أسهل، لن يكلفنا شيئاً، سنقوم بدور الضحايا على أكمل وجه، وإذا حدثنا أحد عن الإرادة فسنقول إننا ندخرها لوقت أفضل، ونتعامى عن حقيقة أن الإرادة لا تُدَّخر، إنها تَفْسَد إذا حُفِظت، الإرادة يجب استخدامها، الآن، وعلى الفور.
المخلصون لا ينتظرون أحداً، ولا ينتظرون ظروفاً مواتية، ولا ينتظرون الحل الشامل، هل تعرفون ما هو الحل الشامل؟ هو الحل الذي يعالج كل الأزمات التي نمر بها، أي حل يسقط نظاماً دكتاتورياً عملاقاً وعميقاً ويُحِل محله نظاماً آخر، حل لديه تصورات كاملة لما يجب أن يحدث بعد ذلك، حل لديه خطط للتنمية، وعلاج لوحدة الصف وطرق تحقيق العدالة دون جور ولا تعدِّ، إلى آخر هذه التصورات، فإذا ذكرت لهم أي مبادرة لا تحمل سحر الحل الشامل استهزؤوا بها، وقللوا من أهميتها، وقالوا ماذا تفعل تلك في مواجهة المصيبة والكارثة التي نمر بها.
هل تدركون أيها السادة خبايا صناعة التغيير؟ هل تعلمون أن خلع الدكتاتورية، أو تغيير المجتمعات المريضة مثل خلع الضرس، لا يمكن أن يتم هكذا بضربة واحدة؟ افعلوا مثلما يفعل الطبيب، عدة محاولات، يهزه من هنا، ويضربه من هناك حتى يخلعه.
هل جالت بخاطركم فكرة التراكمات بدلاً من فكرة الضربة القاضية؟ هل وردت لديكم فكرة المبادرات؟ افعل شيئاً، أي شيء، أفضل ألف مرة من التحسر وصب اللعنات وانتظار المخلِّص.
كن مثل هذا الألماني الذي قال “لقد اعتادت أوروبا رؤية صور المهاجرين الغرقى ومراكبهم المحطمة، أما نحن فلا، ولهذا السبب سنستمر في الإنقاذ”، فبعد أن تفاقمت في السنوات الأخيرة أزمة اللاجئين العابرين إلى أوروبا في مراكب الموت، قرر هارالد هوبنر ومعه مجموعة من رفاقه أن يأخذوا على عاتقهم همَّ إنقاذ تلك الأرواح اللاجئة المُعذبة، ما دامت حكومات أوروبا كلها قد تخلت عنهم.
في عام 2014 قام هارالد ورفاقه بتأسيس “سي-ووتش”، وهي منظمة غير حكومية وغير ربحية تعمل على إنقاذ المهاجرين في عرض البحر، وقد بدؤوا العمل بجمع التبرعات وشراء مركب متهالك ومن ثم تجديده واستخدامه في عمليات الإنقاذ. ومنذ التأسيس حتى الآن نجحت المنظمة في حشد المتطوعين وإنقاذ أرواح آلاف المهاجرين بطول البحر الأبيض المتوسط وعرضه، متحدين بذلك الحظر والتضييق الذي تفرضه عليهم بعض الحكومات، لم يكن لديهم الحل الشامل، لكنهم لم يرغبوا في انتظاره وانتظار المخلِّص.
(5)
لا تقلل من جهد، ولا تسخر من مبادرة، ولا توجه نقداً لأحد وأنت جالس لا تفعل شيئاً، ولا تستصغر من عمل، ولا تبحث عن حل شامل، الحلول الشاملة لا تولد هكذا فجأة، الحلول الشاملة تولد صغيرة ومتناثرة حتى تجتمع وتشكل الخلاص.
(6)
ماذا تفعل وأنت في انتظار المخلِّص؟
لا تنتظر أحداً.. أنت المخلِّص.