غير أنني غير مهيأ لذلك
توطئة:
حار العلماء في وصف الفراق.. ذلك أنهم لم يسألوني!
كل فراق يخدش القلب، يحدث به ندبة، لا تعالج وإن عاد الجاني المفارق وتاب..
(1)
أحب “اللمة”، اجتماع العائلة عند العشاء، أطباق الحلوى وأكواب الشاي، فيلم السهرة، الحوارات عندما تحتد، عندما تكتشف أن “العيال كبرت”، النوم يهزم أحدنا، ينام في المكان ولا يغادرنا.
أحب “اللمة”، الأصدقاء في المقهى، يد هذا على كتف ذاك، والقلب على القلب، الابتسامات والغمزات والمعاندات، إنها المشاغبات من كل حدب صغارا، والأفكار من كل لون كبارا، وما بينهما الرحلات والسينما ومناكفة المدرسين ومعاكسة بنات الجيران وفسحة الخميس، ثم لاحقا المظاهرات والمؤتمرات والأحزاب والمنظمات.
أحب “اللمة”، جدال الزملاء في العمل، إفطار رمضان الجماعي، الاحتفال بين غرف المونتاج وكاميرات التصوير والمكتبة العامرة بعيد ميلاد أحدهم، نغني لها أو له، نمزح، نهزم كل الخلافات بيننا.
أحب “اللمة”، المتدربون والمتدربات، الدرس تلو الدرس، صيد الأفكار من الطرقات، العدسات تحيل الفكرة صورة، كل ما حولنا غير مألوف، الدهشة نصيب الجميع، والجميع يعين بعضهم البعض، يناكف بعضهم البعض، الفكرة تصبح بفضل اللمة فيلما، نحتفي به في حلقات السمر.
(2)
حدث ذلك في رواندا، وعند بحيرة كيفو الشهيرة، وفيما كنت أعلم الشباب كيف يحكون الحكاية، استيقظت في أحد الأيام كالعادة مبكرا، ربما كنت لسبب غير معروف متحمسا كثيرا، ربما كنت لسبب غير معروف غارقا في الشرح، ربما كنت لسبب غير معروف رائق البال، حين جاء كيوبيد إلى قاعة الدرس، لا أعلم كيف تسلل، وهناك حراس أشداء على باب مخيمنا التدريبي، جمع سهامه، وجهها إليهما، أتخيل أنه قهقه بصوت عال، لقد أصاب أهدافه بدقة، فات الاثنين الدرس، وفاتني أنا ما جرى، وعدت منهكا إلى غرفتي.
(3)
يكبر ابنك أو ابنتك، تشتد مع العمر الروابط بينكم، تصبح الصغيرة كأخواتها صديقتك، تجلسان حول القهوة تتناقشان، تتحاوران، تختلفان، تحتدان، ثم هي تحكي لك عن أسرارها، تخبرك عن “الواد” الذي أعجبت به، وأنت فرح، فقد كبرت حتى باتت صديقة تفشي لك بأسرارها، مسكين أنت لا تعرف أن هذه أولى علامات الفراق وخرق “اللمة”.
(4)
– بربك، هل يجتمع الضدان، كيف تحب أنت هذا الشاب وتغتاظ منه في آن، كيف ترى أنه سيؤسس ل”لمة” جديدة ولا تفرح؟
– معك حق، لكن كيف أفرح وهو يسلبني عزيزا؟
– وكيف تحزن وقلبك فتح له أبوابه من لقائه الأول، وأخبرك لاحقا أن لا أحد غيره سيأتي لها بالفرح، وأن لا أحد غيره عليها يؤتمن.
– نعم هذا ما شعر به قلبي، ولكن هل علي حقا أن أتبع قلبي؟
– هل جننت؟، ألم تصدع رؤوس الناس بنصيحتك أن يتبعوا قلوبهم؟
– حدث بالفعل ولكني اشترطت أن يطهروها قبل ذلك.
– وهل فعلت أنت؟
– نعم طهرته ما في وسعي.
– إذن أتبعه ما في وسعك.
(5)
هذه المملكة لي، اجتهدت ما اجتهدت في بنائها، مهدت فيها الطرق، وشققت لها الأنهار، ملأتها بالبنايات والأزهار، سقيتها من دمي وعرقي، ثم ها هو أحدهم ينتزع مني أحد رعيتي، لكن مريم تنفي لي الأمر وتزعم أن مملكتي لن تنقص ولكنها ستزيد واحدا.
(6)
الحب هو أكسير الحياة، هو ما يمنحك القوة للتغلب على كل عثرات الحياة وخيباتها، هو ما يجبر خاطرك، هو الإسمنت الذي يربط بين شتاتك، هو ذاك الغشاء الرقيق للغاية المتين للغاية الذي يغطي حياتنا ولولاه لانفرط عقد كل شيء وراح، الحب أنواع وأنواع، الحب يقع فيه المؤمن والشيخ والقس والوطني والأخت والأخ والأم والأب.
أما الأب فهو رجل ضد الكسر أو الخدش، عنده قلب من حديد، تمنعه هيبته ووقاره من التعبير عما بداخله، كلاما أو دموعا، هكذا علمونا، فلماذا أخالف ذلك، لماذا يبدو القلب ضعيفا إلى هذا الحد، بالأساس لماذا يشقى المرء بالحب؟
(7)
اليوم هو السابع من ديسمبر من عام 2019 أعلن فرحي وحزني في آن، وأتحسس الندبة، لقد فعل هذا “الواد” ما فعلته أنا مع حماي قبل أكثر من ثلاثين عاما، انتزعتها من حضنه، استوليت على جزء من مملكته، نعم إنها طبائع الأشياء، وسنن الحياة، وكما تدين تدان، أحدث نفسي، أعرف ذلك جيدا، أجيبها، أزيد: غير أني غير مهيأ لذلك.