مشوار تاريخي
أعلن كلب جارتي عن بدء رحلتي اليومية ..
أصابني الذعر أول مرة أطلق فيها نباحه بعد أن انتقلت إلى شقتي الحالية، رغم علمي أن أخلاق الكلاب هنا لا تسمح لها بالتعدي على المدنيين المسالمين.
مرة كان باب جارتي مفتوحًا، فوجئت به ناصع البياض، صغيرًا للغاية، على عكس ما يوحي به نباحه، امتثل لأمر جارتي وتركني أمر وأنا أتمثل الرزانة.
لا أعرف لماذا أكرر كلمة جارتي، الحقيقة أن عائلة بكاملها تسكن أسفل شقتي، ربما للصرامة التي تبديها السيدة، والتي توحي بأنها تفرض سيطرتها على بيتها، كسمة من سمات اليوغسلافيات اللائي اشتهرن بقوة شخصياتهن خصوصًا في الحقبة الشيوعية.
أستمتع وأنا أشق طريقي هابطًا في الزقاق، أدرك أنني سأدفع ثمن ذلك في العودة صعودًا، كان الأمر شاقًا علي جدًّا عندما سكنت سراييفو أول مرة، تقطع معظم شوارعها إما صاعدًا وإما هابطًا، تندهش عند حلول الجليد كيف يغالب ذلك العجوز، إنه يسير بخفة ونشاط فيما أنفاسي تكاد تنقطع وأنا أناور متجنبًا الانزلاق والفضيحة، رغم كوني شابًّا، أقصد شابًّا حين أتيت أول مرة قبل ثلاثين عامًا.
هذه البلاد ملهمة، أعني البلقان بصفة عامة وأخص بالذكر يوغسلافيا، وأشدد على البوسنة والهرسك، وعيني على سراييفو، فحكايات التاريخ هنا ملقاة على جوانب الطرق، والمشوار اليومي بين بيتي ومقر عملي يشهد على ذلك.
ينتهي الزقاق وأصل إلى حديقة تسمى البارك الكبير، كل مرة أدخلها أشعر كأني أدخلها أول مرة، لا حيلة لي مع الجمال، مساحة خضراء رائعة صيفًا، وبساط ناصع البياض شتاء، أواصل طريقي خلالها هابطًا، إلى اليسار يجلس رجل على المقعد الحجري ممسكًا كتابًا يقرأ به، شدني الفضول مرة فاقتربت بما يسمح لي برؤية كتابه، فإذا هو مصحفه.
سيدة تضع لقيمات على الأرض، تسارع حمامة إليها، أرفع رأسي فإذا بسرب من الحمام يأتي سريعًا كأنه أبصر الوليمة، أنواع من الكلاب في الأنحاء تجري هنا وهناك، أصحابها يتبادلون التحية والحديث، ثم تفاصيل كثيرة، كثيرة جداً، تُدخل البهجة على قلب كل عابر، عبّرت عن شعوري ذلك لآية وهي تمر معي ذات مرة، ابتسمت ابنتي وقالت لي: “إن هذه التفاصيل هي نفسها في الحديقة التي تجاور بيتنا في لندن”؛ لكنه الحب، والحقيقة إن لهذه الحديقة حكاية جميلة مثلها.
يقال: إنه كان هناك رجل صالح وتاجر حرفي ثري اسمه مصلح الدين حاجي مصطفى تشيكريكتشيا، كان من بنى ثاني مسجد في البلدة القديمة عام 1526، وقد امتلك تلك الأرض التي أمر بها الآن وخصصها كمقبرة عامة، لاحقًا دفن فيها الرجل، ودفن غيره، ومع وصول الاحتلال النمساوي المجري، تم حظر الدفن فيها على أنها في وسط المدينة، ثم حُوِّلت عام 1886 إلى حديقة عامة بشرط الحفاظ على شواهد القبور.
هذه الشواهد أتأملها في كل مرة، وهي متناثرة، وعلى أشكال متعددة، وكل شكل يرمز إلى صاحب القبر مبيّنًا ما إذا كان رجلًا أو سيدة أو شابة أو طفلًا، وما إذا كان شيخًا أو عالمًا، وكلها تحمل الطراز العثماني، ويقول بوسنيون: إن الإسلام وصل إليهم قبل أن يصل محمد الفاتح عام 1463.
أصل أنا إلى منتصف الحديقة تقريبًا، إلى يساري مجموعة من القبور الحديثة، نحو عشرين قبرًا، دائمًا أجد الأزهار التي أتى بها زائر تغطي واحدًا منها أو أكثر، تسعة من هذه القبور تعود لرجال من الشرطة العسكرية قتلوا يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول 1993 في عملية كانت تهدف إلى استعادة النظام وإخضاع مجموعات عسكرية متمردة للجيش البوسني حديث النشأة الذي كان يخوض حربه الضروس، والقبور الأخرى لمدنيين، ففي ذلك الوقت كان من الصعب دفن الضحايا في القبور المعتادة، والقذائف الصربية لا ترحم حتى المشيعين، فلجأ الناس إلى دفن ضحاياهم في الحدائق، حتى الملعب الرياضي للمدينة تحول إلى مقبرة كبيرة.
بلغتُ نهاية الحديقة، حيث تمثال لرجل رافعٍ يده منادياً، كرمز لمذبحة سربرنيتسا، وقصة الرجل محزنة، فقد أقنعه الصرب بأن ينادي ابنه نرمين المختبئ كي يطلقوا سراحهما، فظل الرجل يناديه في الطرقات، وما إن خرج من مخبئه حتى قتلهما الصرب معًا.
التمثال يقع على بعد خطوات من نصب مكلل دومًا بالأزهار يرمز إلى ضحايا سراييفو من الأطفال في الحرب التي اندلعت عام 1992، ويُقدّر عددهم بنحو ألفي طفل.
أترك الحديقة خلفي، وأصل أخيرًا إلى الأرض المستوية، أُعدل هندامي، البوسنيون شعب أنيق، يهتم بمظهره، كبارهم وصغارهم، فقيرهم وغنيهم على حد سواء، أمضي في شارع تيتو، ما من عاصمة بين جمهوريات يوغسلافيا السابقة تحمل اسم هذا الزعيم إلا سراييفو، رغم أن البوسنيين مختلفون بشأنه، أغلبهم يعتقد أنه أوقع بهم ما أوقع، فيما يتباكى عليه الشيوعيون ويتمنون لو تعود أيامه.
أسرع قليلًا في مشيتي، أتجاوز مكتبي الذي سأعود إليه لاحقًا، أمر بالبنك المركزي، المقر الذي اختبأ فيه الرئيس علي عزت بيغوفيتش أثناء الحرب البوسنية، بعد أن أمطر الصرب مكتبه في القصر الرئاسي وبيته بالقذائف.
يحكي لي ياسمينكو أكشاميا زوج ابنته كيف كان الرجل حريصًا على أن يُعِد القهوة بنفسه “كان يسمح لي بتحضير البن، والسكر، وكل تلك الأشياء، ولكن لم يكن يسمح لي بالقيام بطقوس إعداد القهوة ذاتها، فقد كان يحرص على عمل ذلك بنفسه”.
أمام البنك المركزي محطة للترام، ربما لا يعرف كثيرون أن سراييفو أول مدينة أوروبية يجري الترام في شوارعها، وهي أيضًا أول مدينة تعرف الحمَّامات العامة.
وصلت إلى نهاية شارع تيتو حيث يسمى امتداده شارع ملا مصطفى باشاسكي، وفيه تمتد خطوط الترام، وبموازاته يبدأ شارع الفرهادية، وعند هذا التقاطع تقع الشعلة الخالدة، نار لا تنطفئ أبدًا، شيدت في 6 أبريل/نيسان 1946 كنصب تذكاري لضحايا الحرب العالمية الثانية، وهي الذكرى السنوية الأولى لتحرير سراييفو من الاحتلال الذي استمر أربع سنوات من ألمانيا النازية والدولة الفاشية في كرواتيا، وعُدّ هذا اليوم بمثابة عيد ميلاد سراييفو.
أتأمل شارع الفرهادية، كأنني أود التأكد من أن كل شيء على حاله منذ أن تركته أمس، أمتار قليلة ثم أجد ما يسميه البوسنيون أزهار سراييفو، وهي آثار القذائف الصربية على الأرض التي احتفظوا بها، وقاموا بتلوينها بالأحمر، وكأنها دعوة مزدوجة لعدم النسيان من ناحية، وللفرح بالحياة التي انتصرت من ناحية أخرى.
رغم أن هذا الشارع تأسس في القرن السادس عشر، فإنه أخذ شهرته الدولية بعد المذبحة التي وقعت في 27 مايو/أيار 1992 عندما كان الناس يصطفون في انتظار الخبز، وفي الجهة الأخرى منه وقعت مذبحة السوق الشهيرة التي وقعت في 5 فبراير/شباط، وأوقعت 70 قتيلًا ونحو 200 جريح.
في الصيف خصوصًا يحمل هذا الشارع بهجة فوق الوصف وكأنه في حالة عرس دائم، المقاهي والموسيقى والجمال، العابرون أغلبهم شباب، في مدينة عرف أنها فتية وشابة.
لم تنجح للأسف مقاومة البوسنيين للاحتلال النمساوي المجري الذي سمح له مؤتمر برلين عام 1878 ببسط سيطرته على البلاد، لذا حملت البنايات على جانبي الشارع التي شُيّدت في ظل الاحتلال على الطراز النمساوي.
وصلت تقريبًا إلى منتصف الشارع، إلى يساري كاتدرائية قلب المسيح الكاثوليكية التي بُنيت عام 1889، فإذا خرجت قليلًا عن مسار مشواري اليومي، وتحركت في حدود مساحة كيلو متر مربع فسأجد بالإضافة إلى هذه الكاتدرائية الكرواتية كنيسة أرثوذكسية صربية ومعبدًا يهوديًا، بعد قليل سأمر بمسجد، وهو ما يفتخر به البوسنيون كرمز للتسامح الذي ينقضه المتطرفون أحيانًا، غير أنه على الأقل صفة يتمتع بها الناس هنا.
مجلة فرنسية نشرت على غلافها صورة لفتاة محجبة تسير برفقة فتاة ترتدي زيًّا قصيرًا للغاية، وتساءلت مستهجنة كيف يكون ذلك؟ والإجابة ألّا أحد هنا ينكر على الآخر ما يعتقده، فلا المتدينون يزعجون غير المتدينين ولا غير المتدينين يسخرون من المتدينين، والجميع يحترم الجميع.
آه… وصلت أخيرًا إلى مسجد الفرهادية، أراه على يميني، مجاورًا لفندق أوروبا الشهير، أُسس في القرن السادس عشر، ويحتوي على قبة كبيرة ومئذنة طويلة، وهو مثال آخر على النمط الكلاسيكي للعمارة العثمانية البارزة خلال العصر الذهبي الذي امتد لما يزيد عن 4 قرون.
الجميل أن في مواجهته محلًا للآيس كريم، اسمه “مصر”، وصاحبه مقدوني أسسه قبل 65 عامًا، وبعد أمتار قليلة أصل إلى الخط المرسوم على الأرض الذي يفيد أن هنا يلتقي الشرق بالغرب، فقد تركت ورائي الطراز الغربي وأخوض الآن الطراز الشرقي.
بعد هذا الخط ينتهي مشواري اليومي وأدخل إلى الحي القديم، بطرازه العثماني الخالص، وبجماله الذي لا يُضاهى، وبمقاهيه التي سأقضي بها يومي متجاهلًا مكتبي، أقرأ وأكتب، وأستمتع بالتاريخ في هذا الحي الصغير الذي ينقلك إلى عالم مختلف، مختلف جدًا، وفي هذا حديث آخر.