(1)
كل ما حولي يوحي بالخطر، الظلام يسود المكان، الشفقة في حديث المودعين، طريقتهم في النظر لي، كأنهم يلقون نظرة الوداع الأخيرة، غير أني سعيد للغاية، لا أعرف لماذا، ربما لأنها تجربتي الأولى في ركوب طائرة مروحية، حتى لو كان خطر إسقاطها يصل إلى تسعين بالمائة بحسَب الذين نسقوا لي الرحلة، قد يبدو هذا سخيفا، لكنه الواقع، فأنا هادئ النفس تماما.
(2)
تشير الساعة إلى الثامنة والنصف مساء، أول ليلة من ليالي رمضان عام 1995، يدق جرس الباب، يفيدني الزائر أنه جاء ليصطحبني إلى حيث تبدأ مغامرتي، أتنفس الصعداء بعد بقائي بحسب التعليمات عشرة أيام كاملة أسير منزلي لا أغادره ما بين الساعة الثامنة والعاشرة مساء، في انتظار هذا الدليل، وها هو قد أتى، وأمرني أن أتبعه، أحمل حقيبتي التي أعددتها بدقة، أتأكد من وجود الأموال التي تقضي مهمتي بتوصيلها.
تجوب بنا سيارته شوارع العاصمة الكرواتية زغرب لحوالي ثلث ساعة حتى نصل أحد ضواحيها، تتوقف سيارتنا، تومض سيارة أخرى تقف على بعد حوالي مائة متر منا، يخبرني الدليل أن عليّ التوجه إليها، وأن أدخلها دون أي حديث أو أسئلة مع ركابها، أفعل، أبقى صامتا والسيارة تتحرك هي الأخرى من شارع إلى شارع حتى تتوقف، ويتكرر الأمر وأغادرها إلى السيارة الثالثة.
تتحرك بي تلك السيارة الأخيرة إلى أن نصل المكان المقصود، لا أوراق ولا تصريحات رسمية، فقط يخبرهم السائق بكلمة السر، تفتح البوابة وتدخل سيارتنا ثم تتوقف، يخبرني مرافقي الجديد الذي يتكلم العربية ووصل مع السيارة الأخيرة أن علينا انتظار سيارتين أخريين حتى نتحرك.
نحن إذن – وكما أبلغوني من قبل – في قلب قاعدة عسكرية كرواتية، تدفع الحكومة البوسنية لها مبلغا من المال لقاء أن تربض بها طائرة مروحية قامت بشرائها، واستأجرت لها طاقما روسيا من ثلاثة أشخاص، يتقاضى الواحد منهم خمسة آلاف مارك ألماني مقابل كل طلعة طيران تنطلق من زغرب وتصل إلى مدينة بيهاتش البوسنية التي تحاصرها القوات الصربية بالكامل، وتمنع عنها المؤن الغذائية، وتقطع إمدادات الماء والكهرباء والاتصالات، لذا تغامر هذه الطائرة وتناور للعبور فوق الأجواء التي تسيطر عليها القوات الصربية، والتي تحاول بدورها إسقاط الطائرة.
تصل السيارتان، يتحرك الموكب صوب الطائرة المقصودة، ينزل طاقم الطائرة، يرفعون عنها غطاءها القماشي، تبدأ المحركات في العمل محدثة ضجيجا وجلبة، أنظر إلى السماء قبل أن أدخل الطائرة، أستودع ربي عائلتي التي أخبرتها أنني مسافر إلى البوسنة ضمن مهام عملي المعتادة، ولم أخبرها عن الوجهة ولا عن المغامرة.
أبحث عن مكان لأجلس فيه بين تلك الصناديق التي تمتلئ بها الطائرة، أجد كرسيا قماشيا ملتصقا بجدارها، أفتحه وأجلس عليه، يأتيني أحدهم قبل إغلاق الباب، يطمئنني ببرود شديد أن الطائرة إذا قصفت وسقطت فلن أشعر بأي شيء، أنظر إليه مندهشا ومستفسرا، يسرع بالقول: إن هذه الشحنة التي تحملها الطائرة هي خمسة أطنان من الديناميت، ولك أن تتخيل ماذا سيحدث إذا انفجرت.
(3)
فات وقت التراجع، تبدأ الطائرة في الصعود، هي المرَّة الأولى لي في حياتي التي أستقل فيها طائرة مروحية، تبدو زغرب جميلة من عل، لكن المشهد الجميل لم يستغرق سوى دقيقتين، تباغتنا القذائف التي تنطلق فجأة بغزارة، رغم ذلك تسير الطائرة بين السحاب في خط شبه مستقيم، الطيار ومساعداه في كابينتهم، وحدي أجلس أنتظر مصيري، أضع كل السيناريوهات في حال سقوط الطائرة، هل سأكون قتيلا أم مصابا، أم أسيرا؟ أرقب الموقف المريع من المساحات التي لا تغطيها الشحنة من النوافذ، أحاول الحفاظ على ثباتي، أشيح بوجهي عن الشحنة التي تملأ المكان، أتناسى نصيحة الناصح.
حوالي خمس سنوات تمر وأنا على هذا الوضع، ولا يمكن أن أصدق أنها كانت خمس دقائق فقط في رحلة تستمر حوالي إحدى عشرة دقيقة، يتوقف القصف فجأة كما بدأ فجأة، تمر دقيقة، تتوقف الطائرة في الجو، ترسل إشاراتها الضوئية، تتلقى إشارات مماثلة من الأرض، ثم تبدأ في الهبوط، ما إن تلامس الطائرة الأرض حتى يطفئ الطيار المحرك حتى لا تستطيع القوات الصربية الرابضة عن قرب تحديد مكان الطائرة واستهدافها، ينزل الملاح مسرعا وفي يده بطارية، يصوب ضوءها على ريش مرواحها للتأكد أنها ما زالت سليمة.
يفتحون لي الباب، أخرج سريعا، أتنفس الحياة من جديد، يستقبلني بحرارة ميرصاد فلاغيتش محافظ بيهاتش، أقدم له نفسي: “حشمت خليفة من هيئة الإغاثة الإنسانية المصرية”، فيما المقاتلون البوسنيون يندفعون إلى داخل الطائرة، يسارعون بتفريغها في دقائق، أسلم قيمة المعونة إلى الوفد الذي يستقبلني، يصطحبني المحافظ إلى بيته، نتناول معا سحور أول يوم في رمضان.
(4)
في الصباح يبدو كل شيء بوضوح، وعلى مدى عشرة أيام أرى ما لا أظن أن بوسعي نسيانه أبدا، حوالي مائتي ألف من المواطنين محاصرين تماما، مقطوعة عنهم إمدادات الكهرباء والماء والاتصالات، لا تصلهم قوافل الأمم المتحدة إلا نادرا، وبعضها يقوم الصرب بمصادرتها قبل أن تصل المدينة.
رجل يبحث عما يمكن أن يسد رمقه في صندوق القمامة، سيدة تبكي وتخبرني أنها اعتادت صيام رمضان، لكنها لم تصبر بعد أن وقع بيديها طعام بعد ثلاثة أيام من الصيام المتصل، يدهشني كبرياء الناس هنا، إنهم مصممون على القتال وليس بأيديهم أي شيء، أزور ورشة حدادة تعمل على تحويل بنادق الصيد إلى بنادق للقناصة، لقد غاب المنطق حين صمتت أوربا عن المذابح التي تجري لهم، فلم نبحث عن المنطق في أساليب المقاومة، قاوم بما تملك.
أزور عاطف دوداكوفيتش قائد اللواء الخامس المسؤول عن بيهاتش، يحكي لي ونحن في جولة على جنوده ذكرياته أيام الاتحاد اليوغسلافي عندما كان يُدّرس في الأكاديمية العسكرية اليوغسلافية، وكيف كان يستغرب من أنهم يتعمدون تجاهله، ولا يوصلونه بالطلبة المسلمين الذين كانوا يأتون من ليبيا أو العراق أو أي بلد إسلامي، ويتركون ذلك للكروات والصرب.
يتوقف فجأة ويخبرني أن زعيم القوات الصربية راتكو ميلادتش كان زميله في هيئة التدريس، وأن السيارة التي نتحرك بها هي سيارته التي وقعت في إيادينا، يضحك وهو يقول لي: لو يعلم الآن ما لدينا من ذخيرة في مستودعاتنا لأمر قواته أن تنزل علينا من الجبال مشيا بدون سلاح، هم يظنون أن بحوزتنا الكثير، ويخافون الاقتحام، لا يعلمون أن الكثير من جنودنا يتبادلون أحذيتهم عند تبادل الورديات.
سأحكي لك كيف حصلنا مؤخرا على كمية من الأسلحة والذخائر لا بأس بها، يكمل عاطف حكايته، لقد خدعنا الصرب، مثلت مجموعة من جنودنا أنهم انشقوا عنا وانضموا إليهم، وبادروا فعلا في قصف مواقعنا، وكنا قد حسبنا كل شيء بدقة، حتى لا تقع إصابات حقيقية، علم الرئيس بأمر الانشقاق، ولم يعلم أنه تمثيلية منا، أصابه حزن شديد، ولم يكن بوسعي إبلاغه عبر اتصالات الستاليت، لعلمنا أن هناك من يتنصت وينقل الرسائل للصرب، استمرت الخدعة إلى أن حصل جنودنا على ما كانوا يسعون له من الصرب الذين يدعمون أي انشقاقات ممكنة في صفوفنا، ثم عادوا وانضموا إلينا.
في يوم آخر أدخل عليه مكتبه، يضحك وهو يقول لي: أنا أذاكر الآن من هذا الكتاب الديني، فقد دعوت مجموعة من المقاتلين الصائمين للإفطار، ولا أعرف ماذا سأقول لهم عند الإفطار، لقد كنا شيوعيين حقيقيين، لم نكن نعرف عن إسلامنا أي شيء، حتى أتى “بابا عليا”، ويقصد الرئيس علي عزت بيغوفيتش بحسب ما كانوا يحبون أن يطلقوا عليه.
أثارني كلام عاطف، كيف وقع كل هذا التحول، المساجد ممتلئة عن آخرها، يصلون التراويح على مرتين؛ لأنها لا تسع كل المصلين، رغم ظروف القصف والحصار، حالة من العودة إلى الدين لو كان أدركها الأعداء، بحسب وصفه، ما كانوا أثاروا حربا.
يدعونني للحديث في مساجدهم كما دعوني في إذاعتهم المحلية، وما إن أتحدث حتى لا يبقى في المسجد واحد إلا ويبكي، حتى لا أستطيع إكمال خطبتي، إنهم لا يصدقون وهم في حصارهم الممتد لثلاث سنوات أن بالإمكان أن يكون هناك من يتذكرهم خارج أسوار الحصار، وأن رابط العقيدة قد تجاوز هذه الأسوار .
(5)
يحين وقت الرحيل، يبلغونني أن عليّ الذهاب إلى مهبط الطائرة حوالي العاشرة مساء، وأن أستمر في ذلك كل يوم، فلا أحد يعلم موعد وصولها، لحظي السعيد تصل الطائرة في اليوم الأول لتوجهي إلى مهبطها، العاشر من رمضان أتذكر ذلك جيدا، وجدت أن طاقم الطائرة هو نفسه، أودع الناس وأشعر بألم شديد لفراقهم، وكأنني أعرفهم منذ سنوات.
استقل الطائرة وأنا أحمل حقيبتي، ومعها كاميرا الفيديو، وكلي شوق لأن أسجل هذه المرة رحلة العودة، يدور المحرك، ترتفع الطائرة عن الأرض، لم نكد نبعد مائتي متر إلا وأشعر بانفجار شديد، الليل يتحول إلى نهار، القذائف تتوالى انفجاراتها، وحدي في جوف الطائرة الفارغة وطاقم الطيران في الكابينة، الطائرة تهتز بشدة، أشعر أنها تهوي إلى الأرض، يصيبني الهلع، أتجمد تماما، لا أستطيع تحريك أصابعي، بت على بعد ثوان من الموت.
تستقر الطائرة مرة أخرى وتستمر في الطيران، تناور مناورة شديدة يمينا وشمالا، تصعد وتهبط لمحاولة الفرار من القذائف، أفقد تماما حالة الهدوء التي سادت نفسي وأنا في طريقي إلى بيهاتش، أستوعب أخيرا وأنا الصعيدي معنى “سيبان الركب”.
أتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثلاثة الذين أغلقت صخرة عليهم الغار، فبدأ كل واحد منهم يذكر عملا طيبا قام به، فتنفك الكربة رويدا رويدا، أحاول تذكر ولو عملا واحدا فلا أتذكر، مسح الرعب ذاكرتي تماما، لجأت إلى دعاء سيدنا يونس، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، تستمر انفجارات القذائف حولنا لحوالي خمس دقائق، ثم تتوقف فجأة.
يخرج أحدهم من كابينة الطائرة ليخبرني أننا قد عبرنا منطقة الخطر، ولا مزيد من القذائف، يفتخر بنفسه أنه مسلم شيشاني، تنبعث منه رائحة الفودكا النفاذة التي يستعين بها لمواجهة الخطر فتشعره بعدم المبالاة، تهبط الطائرة في زغرب، تنتظرني السيارة، أتوجه إلى بيتي، أسأل زوجتي متى تاريخ مولدي، فترد مندهشة، أخبرها أن ميلادي الحقيقي هو اليوم.
(6)
أسافر إلى العاصمة البوسنية سراييفو، يسألني الرئيس علي عزت بيغوفيتش في اجتماع مع الهيئات الإغاثية عن حال الناس في بيهاتش، يبدو الألم شديدا وصادقا في عينيه، ثم يسألني هل يصلون التراويح، أجيبه ضاحكا: نعم ولكن بسرعة شديدة.
يصلني خبر مفاده أن وفدا رسميا سوف يتوجه إلى بيهاتش، أذهب إلى باكر ابن الرئيس وسكرتيره، أطلب منه السماح لي بالعودة مرة أخرى برفقة هذا الوفد، يطلب مني أن أترك تقدير الأمر له، أقبل على مضض.
تمر الأيام، ويسافر الوفد الحكومي إلى بيهاتش، ويوم الثامن والعشرين من مايو 1995 ينهي الوفد زيارته ويستقل نفس الطائرة من نفس المكان في طريقه عائدا إلى زغرب.
في المساء تحمل الأخبار نبأ حزينا، ذلك أن وزير الخارجية عرفان ليبوليانكيتش والوفد المرافق له قد قتلوا جميعا بعد أن أسقطت القوات الصربية الطائرة.