(1)
كمشهد أفلام رعاة البقر: غريمان يتواجهان، كل منهما يمسك مسدسه ويحدق في غريمه، تُرى من صاحب الرصاصة الأولى؟ ترى من صاحب الرصاصة القاتلة؟ أما الأول فإنه “بوريس يلتسين” رئيس روسيا، الوارث الشرعي للاتحاد السوفييتي، إحدى القوتين العالمتين، أما الآخر فهو “جوهر دوداييف” جنرال سابق في الجيش السوفييتي، متمرد حاليًّا، يترأس الشيشان، ويطالب باسم شعبه باستقلالها عن روسيا، وكأنَّ موسيقى رعاة البقر ترتفع رويدًا رويدًا، فالمواجهة الحاسمة تكاد تقع، والتاريخ هو الحادي والعشرون من الشهر الرابع لعام ستة وتسعين من القرن الماضي.
(2)
“يلتسن” يدخل مكتبه في الكرملين، مكفهر الوجه، مُطْبِقًا شفتيه، يغلق عليه بابه، يطلب من رئيس حرسه الجنرال “ألكسندر كيرجاكوف”، ذاك الرجل الذي يحكم باسمه البلاد، ألَّا يُدخل عليه بشرًا أو يصله بهاتف.
“يلتسن” في حالة توتر غير مشهودة، يتناول المزيد والمزيد من الفودكا، لكنها لا تنجح في تهدئته، يصرخ: خدعني جنودي، وزير الدفاع كان يتشدق بأن كتيبتَيْ مظليِّين كفيلتان بإنهاء تمرد هؤلاء الجبليين الشيشانيين، والمخابرات تفشل كل مرة في تخليصي من كابوس هذا الرجل.
في نفس الوقت تقريبًا كان غريمه “دوداييف” قد انتهى من قص حلمه المزعج على زوجته “آلا” بعد الغداء: عتمة لا تُحَد تهجم عليّ، أتملص بعد لأْيٍ لألهث خلف جهة ما حافيًا تحت لسعات شمس قريبة مُحرقة وورائي كلبان، الكلبان يتلاشيان، ليلحق بي أطفال سرعان ما يختفون، وأخيرًا أطير كعصفور فوق التلال، لأرى بين حين وآخر انفجارًا في مكان شيشاني ما.
ينقبض قلب “آلا” زوجته، تقول له: “إنهم يطاردونك لقتلك”، ينتهي هو من ربط حذائه العسكري، يقف في الممر الذي بات مطبخًا أيضًا، يخبرها: أنا جاهز، يستلُّ بعض ليرات تركية من جيب بنطاله، ينظر بحنو إلى زوجته، يقول لها: هذه مساعدات لنا من أطفال أتراك، ربما يكون طفل ما منهم قد تبرع لحرب استقلالنا بثمن إفطار له في المدرسة، إنها أغلى ما لديّ.
يدسُّها في جيب قميصه، لتكن هنا، يستطرد: لتُدفئ قلبي، ثم يفتح حقيبة يتفقد فيها هاتفه الذي يعمل عبر الأقمار الصناعية، يتفحص الهوائي بإمعان ثم يغلقها، يذهب بعيدًا خلف فكرة داهمته على حين غرة، يقول في غضب مكنون: سألقنهم درسًا على ما فعلوه بنا. يمضي ومعه زوجته ناحية سيارته الجيب، حيث ينتظره مرافقوه، لكن الحكاية تبدأ قبل ذلك بكثير.
(3)
ثمة منطقة تلتقي فيها أوربا بآسيا، جبال وسهول وقوميات متعددة، أطلق عليها الناس اسم القوقاز، الشيشانيون جزء أصيل منها، مسلمون منذ أن وصلهم الدين في القرن الأول الهجري، يعشقون الحرية، وفي سبيلها جاهزون لأي تضحية، لا يرهبون الموت، الذئب رمز لهم، ربما ليس هو الأقوى بين الحيوانات، إلا أنه الأنبل، لا يقاتل إلا الأقوياء، وعندما يموت لا يصرخ، بل يظل يحدق في عدوِّه حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهم شعب صبور، تحمَّل تنكيل القياصرة الروس، وغدر لينين وستالين، وحملات الإبادة والتهجير الجماعي ومصادرة الأراضي والممتلكات التي راح ضحيتها الملايين منهم، وحين تفكك الاتحاد السوفييتي، قال الشيشانيون: هذا هو الوقت المناسب لاسترداد حريتنا واستقلالنا.
(4)
يخلع “دوداييف” حُلَّتَه العسكرية السوفييتية، يخلع ماضيه كله، يخلع معاركه التي خاضها تحت لواء الجيش السوفييتي في أفغانستان، ويقسم على القرآن الكريم أن يكون مخلصًا لبلاده ولاستقلالها، ترفض موسكو أن تعود الخارطة إلى ما كانت عليه، ترسل جنودها، “دوداييف” الجنرال المسلم يعرف الجيش السوفييتي جيدًا، يدير المعركة ببراعة، وتأتي هجمات الشيشانيين على هيبة جيش روسيا العظمى، يزيد الطين بِلَّة أن مخابراتها تفشل ثلاث مرات متوالية في قنص رأس “دوداييف”، آخرها كان قبل شهر من يومنا المشهود، حين كشف رجاله الأمر وقتلوا العميلَيْن الروسيَّيْن.
(5)
على الجانب الآخر يفكر “يلتسين” في الأمر، يقلبه يمينًا ويسارًا، كيف يخرج من هذا المأزق، يشكُّ في فوزه بالانتخابات الروسية المقبلة أمام منافسه الشيوعي، فماذا يفعل؟ يلجأ إلى غريمه الرئيس الأمريكي “كلينتون”، فالرجل هو الآخر ترعبه فكرة صعود الشيوعيين مرة أخرى إلى سُدة الحكم في الكرملين، إذًا فهي المقايضة: “دوداييف” يتصل بالعالم عبر هاتف ستالايت الأمريكي الصنع، أهداه إليه رئيس الوزراء التركي أربكان، أعطني إحداثياته أقتله، يتعزز موقفي وأفوز، وأحميك من مواجهة رئيس شيوعي في روسيا الجديدة.
يوقِّع “يلتسين” على أمر تصفية “دوداييف”، يُحمِّله عبئًا للجنرال “بوسكوف”، ويستجيب لطلبه بدفع مليون ومائتي ألف دولار لقسم التقنيات في المخابرات والدفاع، تكلفة لكشف أسرار هاتف الرئيس الشيشاني “دوداييف”، متحججًا بفشل خمس مجموعات من المخابرات سافرت إلى الشيشان مؤخرًا لمعرفة الترددات المرسلة من الهاتف المجهز برقم سري خاص، وبرنامج لتغيير الترددات مع كل اتصال، ومرتبط فقط بقمر أمريكي، ويعمل عبر نظام “إينمارست” الذي تستحيل السيطرة على تردداته في الفراغ الجوي.
يبدو أن الصفقة تمت، وأن ثمة تعاونًا حصل بين الطرفين الروسي والأمريكي، الآن مطلوب إقناع الرئيس الشيشاني بالحديث في وقت مُحُدَّد، ليُعرَف موقعه بدقة وتقتله الصواريخ، ويطير رأس الذئب.
(6)
السابعة وعشر دقائق تقريبًا، موكب الرئيس الشيشاني المؤلف من سيارته الجيب وسيارة عسكرية لمرافقيه، يسير مسرعًا في اختراق قرية “غيغي – تشو” المنكوبة كشقيقاتها بدمار الحرب وويلاتها، ما سوّل للألم أن يعتصر قلبه، يقول لمرافقيه بصرامة: سننتصر في نهاية المطاف.. سترون. تزيد سرعة الموكب، يصل “مرجا”، تتوقف سيارة المرافقين على بعد عشرين مترًا تقريبًا، فيما سيارة الرئيس تكمل مسيرها حتى تستقر بين تلين صغيرين، الشمس تمضي إلى مغيبٍ وَجِل، الساعة حوالي السابعة وعشرين دقيقة، حان الآن الموعد المحدد لأن يتواصل “دوداييف” مع الروسي “قسطنطين بورافوي”، ممثل “يلتسين”.
القلق يُخيم على الكرملين، التوتر يأخذ من “يلتسين” كل مأخذ، الأنفاس محبوسة في مبنى المخابرات العامَّة ووزارة الدفاع، وفي مسكن ضباط الأمن الفدرالي، المحاذي لفندق بكين وسط العاصمة، حيث غرفة العمليات بخطتها السرية لاغتيال الرئيس الشيشاني، الاتصالات لا تنقطع بالقيادة الفدرالية في الشيشان، وخاصة بالطيارَيْن المكلفَيْن بالمهمة، ومع كل تواصل تقتضب اللهجة الآمرة، وتزداد غضبًا وحدَّة: رأس دوداييف بأي ثمن.
يبدأ الاتصال، تحوم طائرتان روسيتان في الأجواء الشيشانية، تنتظران الإشارة التي تحدد موقع “دوداييف”، وهي مهمة الطائرة التجسسية (آ-50) بعيدة المدى التي تحاول التقاط الإشعاعات الصادرة من هوائي هاتف “دوداييف” وبثها إلى الطائرتين المكلفتين بالتخلص من رأس الذئب.
في نفس الوقت تتهيأ العاصمة غروزني كباقي المدن والقرى الشيشانية لاستقبال ليلة معتمة بعد انقطاع الكهرباء عنها، فيما كانت شوارع موسكو تغتسل بأضواء المصابيح ولوحات الدعاية، والحياة فيها تجري إلى مستقر اعتيادي، لكن بعض مكاتب مبنى المخابرات والدفاع وقصر الكرملين تظل موصدة الأبواب على موظفيها الذين تلقى بعضهم أمرًا دون تفسير بعدم المغادرة.
(7)
السابعة وخمس وثلاثون تقريبًا، يتفاقم القلق مع دنو ساعة الصفر المنتظرة، فاخا إبراهيموف، السكرتير الصحفي لدوداييف، يقرأ بيانًا موجهًا للشعب الشيشاني ضد حكومة “دوكا زوكايف” التي نصبها الروس: “حكومة الشيشان إتشكيريا تحذر من أن هذه مهزلة جديدة ستقود إلى التوتر، ونقل العمليات العسكرية إلى داخل روسيا”.
لم ينته الرجل بعد، فتطلب “آلا دوداييف” من زوجها أن تقرأ خطابًا لأمهات الجنود الروس ليكفوا عن المشاركة في الحرب، لكنه بلطف يؤجلها حتى يتصل بقسطنطين بورافوي، “دوداييف” مطمئن أن الأمريكان وحدهم يمكن أن يلتقطوا الترددات الصادرة عن هوائي هاتفه، وفي نظره لن يفعلوها ويبلغوا الروس بمكانه، عادة يتصل “دوداييف” على بعد عشرين مترًا من الهوائي، هذه المرة لم يفعل، فموسكو هي التي طلبت الاتصال للتفاوض حول إيقاف الحرب.
يقف إلى جوار سيارة الجيب، حيث حقيبة الهاتف، وهو يعمل على غطائها، أخيرا يبدأ الاتصال، الرئيس الشيشاني “دوداييف” من جهة، و”بورافوي” من الجهة الأخرى، ما إن يبدأ الحديث معه حتى ينقطع الاتصال كالعادة، تصرخ زوجته بعد أن سمعت دوي طائرة: “طائرة”، يلاحقها بعينيه ويقول: “لقد رمت ما في بطنها، وهي في اتجاه الحدود الجورجية الآن واختفت بين الجبال”.
الذئب الشيشاني يعاود الاتصال، يؤكد لغريمه: “قواتي تنتصر في كل المواقع، وقواتكم تحرث بالنار كل شيء”، فيرد عليه: “لكني أظن أن لقاء شخصيًّا مع يلتسن يمكن أن يسوي الأمور، لكن إذا قطع الخط متى تعاود الاتصال؟” فيجيبه: “بعد قليل، حوالي الساعة الثامنة”.
ينقطع الاتصال بالفعل، الأجهزة الأمنية تنتهي من تسجيل الحوار الهاتفي بين “دوداييف” و”بوروفوي” دون علمهما، لكنها لم تسمع عبر السماعة صوت الانفجار، ولدى اتصالها بالمركز الفدرالي المعني في القوقاز الذي اتصل بدوره بالطيارين، جاء الرد مخيِّبًا للآمال، وسُقِطَ في أيديهم، فلم يكن أحد ليتجرأ على إبلاغ يلتسين بفشل العملية، أخيرًا يضطر الجنرال “بوسكوف” إلى إخطاره مُؤَمِّلًا أن يُعيد “دودايف” الاتصال حسبما هو متفق.
(8)
تحط الطائرتان المكلفتان بالمهمة في قاعدة مزدوك الروسية للتزود بالوقود، بعد أن فرغ تمامًا في جولتهما الأولى، دون أن تُبَثَّ لهما الإشارة من الطائرة التجسسية، “يلتسين” يتناول المزيد من الكحول، يكاد يفقد صوابه وهو في انتظار من يخبره أن رأس الذئب قد طار، القائمون على عملية الاغتيال أسرى الخوف من إقالته لهم، فالرجل معروف بقراراته النزقة، ويكاد يدور في نفسه سيناريو الفشل، وكأنه يحدث نفسه: “الأخطر في العملية ليس فشلها، بل بقاء “دوداييف” حيًّا، لو تمت تصفيته سيسهل التفاوض وحل القضية الشيشانية على الطريقة الروسية، ما يقدمني قيصرًا جديدًا لروسيا، وإذا فشلنا فتلك مصيبة، والطامة العظمى خيبتي أمام كلينتون”.
يعتقد رجال “يلتسن” أن “دوداييف” ولضرورات أمنه الخاص – وهو المعروف عنه خبرته العسكرية والأمنية كونه جنرالًا سوفييتيَّا قاتل في أفغانستان – لن يتصل بموسكو من المكان نفسه ثانية، أما “يلتسين” نفسه فقد أسرف في تعاطيه لكميات أكبر من الكحول، حتى لم يعد يطاق.
في هذه الأثناء لم تنقطع الأوامر من موسكو إلى القاعدة الجوية، ومنها إلى الطيارين: احذروا، لن يُغفر الخطأ هذه المرَّة. سمعة روسيا في الحضيض.
أصبحت الساعة على مقربة من السابعة وخمس وخمسين دقيقة، الطائرتان على الارتفاع نفسه ما تزالان تمخران الأجواء في السماء الشيشانية التي بدت صافية قبل الغروب، فيما لم ينقطع اتصال الطيارَيْن بالطائرة التجسسية.
يستلُّ الرئيس “دوداييف” من جديد الهوائي معيدًا الاتصال من المكان نفسه بموسكو، وهذه المرة ليس بقسطنطين بورافوي، بل يُعتقد أنه مع “يلتسن” نفسه الذي تعمد إطالة أمد المكالمة، “فاخا” ينتبذ مكانًا قصيًّا ليدخن، فمن عادة الشيشاني ألا يدخن في حضرة كبيره، فيما مساعد الرئيس الآخر يذهب ناحية زوجته.
لقد فهما أن الرئيس الشيشاني لا يريد لأحد من حرسه أن يستمع للحوار الهاتفي، يبدأ بالاتصال، فيما تلتقط الطائرة التجسسية بالفعل الترددات، وتبدأ بإرسال السمت المحدد للطائرتين، تلقي الأولى صاروخًا لم ينفجر، فيما الثانية تصيب بصاروخها الموجَّه بأشعَّة الليزر الهدف بالضبط، لا وجود الآن للسيارة ولا للرئيس، للحظات صمتٌ قاتل، إلى أن تجده زوجته ومساعده مطروحًا على ركبة مساعده الآخر.
“آلا” تساعد مساعده في حمل جثة زوجها إلى السيارة العسكرية خوفًا من استكمال القصف فيما “فاخا” يبدأ جريحًا بانتشال الأسلحة من سيارة الجيب الساخنة من اشتعال بعد الانفجار، فيما يسرع مساعده الآخر لانتشال الحقيبة التي لم يفارقها “دوداييف” قط مذ أهديت إليه.
أحد الطيارَيْن أرسل الإشارة مباشرة إلى مكتب يلتسين: المهمة نُفذت، دوداييف لم يعد موجودًا.
وتتردد الصيحات في الكرملين، لكن يلتسين الذي كان محبطًا لانهيار شعبيته نتيجة هزيمة جيشه في الشيشان يصرخ فرحًا، فقد سمع صوت الانفجار من سماعة الهاتف، يحتسي كأس فودكا ويطير إلى الشيشان ليصرح متبجحًا أمام الجنود الروس: “الحرب في الشيشان انتهت”، لكنها – في الحقيقة – لم تنته.