(1)
يخبروننا دائمًا أن التاريخ يكتبه المنتصرون، يفرضون قصتهم ويحذفون بجرة قلم كل ما لا يناسب روايتهم الرسمية، لكن هناك من ينجح في وقف الأكاذيب الكبرى، ويكشف زيف ما قد يكتبه المنتصرون، هذا ما فعله صاحب حكايتنا.
(2)
يولد صاحبنا في الثامن من أبريل/نيسان من العام 1937 لوالدين من ليتوانيا ذوي أصول يهودية، ليعيشا في حي أوستن بولاية شيكاغو الأمريكية، ويديرا متجرًا للتنظيف الجاف، يقضي سنوات مراهقته عاملًا في المتجر لمساعدة والديه، يلتحق بجامعة شيكاغو، ويدرس التاريخ، ويتخرج فيها، لكنه يجد أن الأمور لا تجري كما يتوقع، فالعثور على وظيفة بمؤهله ليست بالسهولة التي يتخيلها، ليقرر في النهاية الحصول على وظيفة في إحدى الشركات الكبرى التي تدير الصيدليات في الولايات المتحدة، تراوده فكرة الالتحاق بكلية الحقوق سعيًا إلى وظيفة محام باعتبارها من أكثر الوظائف الناجحة، لكن سرعان ما تستبعده الجامعة لضعف درجاته.
لا ييأس ويقرر أن يجرب حظه في مهنة أخرى، وينجح في الحصول على وظيفته الأولى في عالم الصحافة، حيث يقتصر عمله على حمل ملفات التقارير الصحفية ونقلها بين الأقسام المختلفة، وبين الصحف المختلفة، فكانت تلك هي الطريقة التي تستخدمها الصحف فيما مضى لإتمام أعمالها.
لا يمر الكثير من الوقت على هذا الحال لينجح في العمل محررًا لأخبار الشرطة في مكتب أخبار مدينة شيكاغو في العام 1959.
ينتقل بعدها إلى العمل في إحدى صحف الضواحي الورقية، وهي إيفرجاردين ريبورتر قبل أن يقرر الانتقال إلى واشنطن ليطور مساره المهني، ويلتحق بوكالة يونايتد برس إنترناشيونال مراسلًا صحفيًّا في داكوتا الجنوبية.
بحلول العام 1963 تتطور مسيرته المهنية بشكل كبير ليصبح مراسلًا صحفيًّا في وكالة الأسوشيتد برس عن ولايتي واشنطن وشيكاغو، لتمثل تلك واحدة من أهم النقلات في مسيرته المهنية، ويبدأ في تشكيل أسلوبه الاستقصائي في العمل؛ يتجاوز القواعد الصارمة لوزارة الدفاع الأمريكية، ويسعى لعقد مقابلات مع ضباط وقيادات رفيعة المستوى داخل الوزارة وخارجها.
يكتب قصة صحفية عن تطوير الحكومة الأمريكية لأسلحة بيولوجية وكيميائية، لكن الأسوشيتد برس ترفض نشرها، وتطلب منه تخفيف حدَّة القصة قليلًا، تتعقد الأمور بين الطرفين، ويقرر ترك العمل في الوكالة، ويبيع قصته إلى صحيفة The New Republic.
(3)
يقرر العمل صحفيًّا حرًّا، وفي صبيحة يوم الأربعاء 22 أكتوبر/تشرين الأول، يجلس في مكتبه ليستقبل اتصالًا هاتفيًّا من المحامي الشاب “جيوفري كوان” المعتاد على كتابة مقالات انتقاد حادَّة للحرب الأمريكية على فيتنام، يبلغه المحامي بقضية عسكرية فُتِحَ فيها التحقيق داخل قاعدة فورت بيننج في ولاية جورجيا الأمريكية بشأن مقتل 75 مدنيًّا فيتناميًّا في مجزرة ارتكبها الجيش الأمريكي.
يتحرك في قلبه شعور قوي بأن الأمور في هذه الحرب لا بد أنها قد خرجت عن السيطرة، لتصل إلى ارتكاب مجزرة بحق المدنيين بعيدًا عن المعارك العسكرية.
يصاب بالحيرة، فمعرفته بالمحامي كوان ليست وثيقة ليتعامل مع معلومته بثقة مطلقة، كما أن المذبحة لم تحظَ بأي ذكر في الرأي العام الأمريكي، لكن عقله يباغته سريعًا بأيامه في المركز الإعلامي لوزارة الدفاع حينما كانت تُسرب أي إشاعة وينكرها المسؤولون هناك، يدرك فورًا ومن دون تردد أن خلفها حقيقة دامغة.
يذهب إلى الوزارة، ويقوم بمراجعة كافة سجلات القضايا المطروحة أمام المدعى العامِّ والمدعي العسكري، لكنَّه لا يجد أي قضيَّة تشير إلى ارتكاب مذبحة أو عملية قتل جماعي.
(4)
يصاب بالإحباط، ما يدفعه إلى التراجع، فلا شيء مسجل في الدفاتر العسكرية داخل الوزارة، حتى تقع مفاجأة لم يكن ليتخيلها في أبعد خيالاته.
يلتقي أحدَ معارفه القدامى في وزارة الدفاع، فيحدثه عن الواقعة بصفتها شائعة، ويخبره باسم المجرم الرئيسي المتورط فيها، وبعدما كان يبحث عن أي ملمح عن القصة صار يمتلك اسم المتهم الرئيسي فيها، ليقوده مصدر وزارة الدفاع إلى البحث في سجلات صحيفة نيويورك تايمز الصادرة قبل ستة أسابيع من تاريخ لقائهما، ويجد فيها فقرة صغيرة مقتضبة تشير إلى أن ضابطًا في الجيش الأمريكي اسمه ويليام كالي متهم بقتل عدد من المدنيين في فيتنام دون ذكر عددهم، وأن التاريخ الفعلي للواقعة في مارس/آذار في العام نفسه، ولم تلفت الفقرة نظر أي صحفي أو محرر للبحث عن حقيقتها أو تفاصيلها.
يفكر في معاودة التقرب من أحد أصدقائه القدامى وهو مينديل ريفيرز الذي يترأس لجنة الدفاع والقوات المسلحة في الكونجرس الأمريكي، وهو رجل مؤيد تمامًا للتحركات العسكرية الأمريكية كافة، بما في ذلك حربها على فيتنام.
يقرر تجنب المراوغات، ويخبره مباشرة بما يعرفه، ليجد الرد من ريفيرز بأنه لا ينفي القصة، لكن يحذره بلهجة شديدة أن يقترب من هذا الأمر، وأن يحاول الكتابة عنه، فالمسألة فوضوية بالكامل، والضابط المتهم جن جنونه فجأة فحمل سلاحًا عسكريًّا ثقيلًا وفتح الرصاص عشوائيًّا على المدنيين.
يخرج من اللقاء وكلمات صديقه ترن في أذنه بتحذيراتها شديدة اللهجة، لكنه يمضي في الأمر، ويبدأ في تجميع كل المعلومات التي سمعها، لكن الأمر لا يزال غامضًا، يتصل بالمحامي كوان الذي أخبره بالحكاية، يطلب منه البحث عن اسم المحامي الموكل بقضية الضابط الشاب، يغيب كوان يومين ثم يعود باسم مختصر “لاتيمر”.
يبحث في سجل هواتف ولاية واشنطن عن محام يدعى لاتيمر، ليجد محاميًا لا يعرف أي شيء عن قضية قتل تتعلق بحرب فيتنام، ليقوده البحث للعثور على جورج لاتيمر وهو مقاتل سابق في الجيش فترة الحرب العالمية الثانية، عمل بعدها قاضيًا في القضاء العسكري، ليترك بعدها المنصب ويمارس مهنة المحاماة.
يتصل بالمحامي ويجيبه بوضوح أنه يتولى القضية، وأن الأمور تحمل بعضًا من غياب العدالة، يتفقا على اللقاء، ويسافر لمقابلته بالفعل، يخبره المحامي بأنه لن يستطيع أن يخوض في كثير من التفاصيل، لكن القضاء العسكري عرض على موكله صفقة تتضمن دخول السجن مع تخفيف العقوبة في مقابل تحمل القضية وحده بالكامل، ليرفض المحامي ذلك، مؤكدًا أن موكله لا يمكن أن يكون المسؤول الوحيد عن الجريمة.
يخبره صاحبنا بأن المعلومات التي وصلته تفيد بأن الرجل متهم بقتل 150 مدنيًّا، فيما رجح آخرون أن الضحايا 75 فقط، وأن هجمات القتل الجماعي شائعة بشكل عام في الحرب الأمريكية على فيتنام.
يصاب المحامي بالغضب من سماع الأرقام الخرافية، ثم يتحرك لاستخراج بعض الأوراق من ملف القضية، ويضع أمام صاحبنا بيان الاتهام من الجيش لموكله بقتل 109 أشخاص شرقيّين، وأن البيان ذكر أنهم شرقيون تحديدًا.
(5)
يفكر في تتبع المعلومة الأولى بأنَّ الضابط قيد التحقيق في قاعدة فورت بيننج في ولاية جورجيا، ولأن القواعد العسكرية الأمريكية مفتوحة والدخول إليها غير مقيد، فكانت مهمة صاحبنا أقل صعوبة.
يسافر إلى القاعدة العسكرية، يجد في الخريطة نقاط الاحتجاز داخل القاعدة، فيبدأ في التنقل نحوها، يدخل نقطة الاحتجاز ويتحدث بلهجة حازمة للضابط المسؤول أنه يرغب في لقاء ويليام كالي، لكن الإجابة تأتيه بأنه لا أحد بهذا الاسم هنا، يمضي ساعات طوال متنقلًا بين نقاط الاحتجاز داخل القاعدة التي يماثل حجمها ولاية نيويورك تقريبًا، ليجد في النهاية أنه يبحث عن السراب تقريبًا.
يتوقف بسيارته المستأجرة عند هاتف يعمل بالعملات بالقرب من كافتيريا، يطلب منها استعارة دليل الهاتف ويبدأ في الاتصال بكافة النوادي القريبة من المكان باحثًا عن أي حجوزات باسم كالي، لكن لا شيء عنه.
يقرر في النهاية المخاطرة والذهاب نحو هيئة الاستشارات القانونية العسكرية المسؤولة عن تحريك الدعاوى القضائية المنظورة أمام القضاء العسكري.
يدخل ليجد رقيبًا يجلس وحيدًا، يسأله عن كالي، تتحول ملامح الرقيب إلى الغضب ويمسك بالهاتف، يسأله ما المشكلة؟ ليرد الرقيب أنه تلقى أوامر بالتحدث للقائد بمجرد أن يسأل أحدهم عن كالي، يصاب صاحبنا بالخوف، ويقرر الانسحاب والخروج من المبنى سريعًا متجاهلًا نداءات الرقيب.
يتذكر من أيام عمله في الأسوشيتد برس أن الجيش يصدر دليلَ هاتف لأفراده محدَّثًا كل بضعة أشهر، يتصل به بالفعل، ويطلب معلومة عن ويليام كالي، فالضابط حتى وصوله إلى الولايات المتحدة كان فردًا في الجيش الأمريكي، ولم يكن قد دِينَ بعد.
تخبره موظفة الدليل بأن صاحب الاسم موجود في وحدة تخطيط هندسي داخل معسكر تدريب في قاعدة فورت بيننج العسكرية، يقطع مسافة ساعة بالسيارة حتى يصل إلى هناك.
يصل إلى مبنى ليس به سوى ضابط في الدور الأرضي، يتجنب العبور بالقرب منه، ويختار بوابة أخرى، ويصعد إلى الدور الثاني، ليجد في أول غرفة تقابله شابًّا أشقر يرتدي زيًّا عسكريًّا نائمًا في سريره.
يظن أنه عثر على رجله المنشود، يوقظه، ليكتشف أنه مجرد جندي نقل البريد واستلامه من الخارج، يسأله عن وليام كالي، فيخبره الجندي عن جندي مسؤول عن الملفات بإمكانه مساعدته.
يعرض عليه الجندي ملف كالي ليتفحصه، ويعثر فيه على شيء واحد ذي قيمة وهو عنوان منزله، يتعجب من موافقة الجندي على مساعدته بتلك السهولة، لكن الجندي كان ساخطًا على الجيش وخدمته فيه.
(6)
يتجه إلى منزل كالي، القابع في تجمع سكني حديث، وعند وصوله يجد ثلاثة ضباط شباب يتحدثون معه بشكل مقتضب عن كالي، رافضين إخباره بأي تفاصيل يعرفونها، لكنه عند رحيله يتبعه أحدهم ويخبره أنه متحفظ عليه في أحياء الرتب العليا لقيادات الجيش، وأن مكانه هناك سيكون من الصعب تخمينه.
يصل إلى المكان المقصود، يطرق أبواب الشقق، ويقضي النهار كله طارقًا كل أبواب المباني السكنية الثلاثة بلا فائدة، يتعبه الأمر، فيذهب إلى نُزُل ليقضي فيه الليل ويتناول الطعام وينام قليلًا قبل معاودة الأمر من جديد.
يرى اثنين من العناصر العسكرية يسيران في الشارع، يقرر المخاطرة ويذهب نحوهما، ويسألهما عن ويليام كالي، يشعر أحدهما بالتخوف والقلق، ويسأله عن سبب البحث، فيرد أنه صحفي من واشنطن، وأن كالي متورط في أزمة، ويرغب في الحديث معه، ليخبره الرجل أن كالي يسكن في الشقة التي تعلوه في البناية.
يتحدثان قليلًا ويخبر العنصر صاحبنا بأنه حينما يعود كالي إلى المنزل سيخبره، تقع المفاجأة حينما يسمع صوتًا يناديه قبل الصعود إلى مكان النوم، يلتفت للنداء ليعرف أن كالي موجود أخيرًا، يلتقي بهدفه بعد رحلة طويلة، يخبره كالي أنه توقع لقاءه كما أخبره محاميه.
يتفاجأ برؤية شاب مرتعب شاحب نحيل، عروقه تبرز من جسده، ليخبر صاحبنا بالكثير من الأمور، و أن كل ما حدث في فيتنام كان بأوامر مباشرة، ويسرد تفاصيل الحكاية بأكملها: كتيبة من الجنود يقودها كالي تلقت أوامر من القيادة العسكرية بالتوجه إلى قرية ماي لي الواقعة في مقاطعة كوانج ناجي؛ لأن مجموعات الفيت كونج التي تقاتلها الولايات المتحدة قد سيطرت على القرية، وتستعد لتحريك حملة عسكرية من داخل القرية، وأن الأوامر تقتضي وقف العملية والتعامل مع أي شخص هناك بصفته من الفيت كونج أو متعاطف معهم.
يصل كالي إلى القرية ومعه جنوده، لكنهم يُفاجأون بكذب الإخبارية، وأن القرية مدنية بدائية خالصة، كل من فيها نساء وأطفالهن، يُصدر كالي الأمر لجنوده بتنفيذ إطلاق النار الجماعي ويشارك معهم، لتنفذ واحدة من أكبر عمليات القتل الجماعي في حرب فيتنام.
(7)
ترفض الصحف نشر القصة بسبب مخاوف الصدام مع هيئات الأمن القومي، يقترح عليه مسؤول صحيفة في واشنطن نشرها وإضافة جملة توضيحية: (أن المذبحة وقعت ضمن حرب ضروس بين طرفين، لا يمكن الانتصار فيها) كشكل من أشكال التبرير للجيش الأمريكي.
يرفض صاحبنا، ويظل في عمليات بحثه حتى يتواصل مع مسئول صحيفة في نيويورك، ويخبره بالتفاصيل كافة، ويتفق معه أن النشر إن تم سيكون دون إضافة تبريرات كاذبة، وأن الجريدة ستتحمل كل المسؤولية باعتبارها ناشرًا للقصة.
تنشر القصة، وتشكل زلزالًا ضخمًا حينها، لتعلن وزارة الدفاع الأمريكية بعد نشر القصة بفترة قليلة عن اتهام الضابط ويليام كالي بقتل 109 مدنيين فيتناميين، فيما تتزايد المفاجآت بظهور قصص صحفية لصحفيين كانت لديهم معلومات مؤكدة عن مجازر جماعية مشابهة في فيتنام، لكنهم عجزوا عن نشرها خشية العواقب، لتمثل قصته بوابة الزلزال الذي غيَّر كل شيء حينها، وفتح الباب لنشر الكثير من الحقائق والأسرار المخفية.
لاحقًا يحصل صاحب الحكاية “سيمور هيرش” على جائزة البوليتزر عن قصته، ويدخل مصافَّ أهم الصحفيين الاستقصائيين في تاريخ الولايات المتحدة، بل يتغير على يده تاريخ حرب فيتنام بالكامل، بعدما كانت معتمدة على “البروباجاندا” الأمريكية التي قدمت حرب فيتنام على أنها حرب المدنية الحرة على الهمجية البدائية.