(1)
الحكَّاء صياد ماهر، وساحر عجيب، يعرف كيف يمسك بالتفاصيل البسيطة ليحولها إلى حكاية ملهمة، يسكب فيها من نفسه ومن انطبعاته ومشاعره ليحيك حكاية فريدة، وهذا كان حال أجاثا.
(2)
تصنع الوحدة أحيانًا العجب، فهذه السيدة قضت قدرًا لا بأس به من بدايات حياتها أسيرة المنزل لا تغادره، بعد أن فضَّلت والدتها أن تتلقى طفلتها تعليمها على يدها ويد أختها، لتقضي أجاثا بالفعل أكثر من 8 سنوات تتعلم الكتابة والموسيقى وتقرأ الكتب على يد أسرتها دون أن تطأ قدماها أي مدرسة، وهي المولودة في عائلة ميسورة الحال من الطبقة الوسطى.
ولأن التغيرات في حياتنا لا تأتي فجأة، وإنما تنتج من تراكمات وتوابع، فقد تغير الكثير في حياتها في السنوات التالية، لكن الكتابة ظلت رفيقتها التي غيَّرت حياتها لاحقًا.
في عام 1910 تبلغ أجاثا العشرين عامًا، تقرر مشاركة مجموعة من الطلبة رحلتهم ضمن البرامج الاجتماعية التي كانت تنظم حينذاك، وتستمر ثلاثة أشهر، وهي الرحلة الأولى لها خارج بلادها، ومقصدها كان مصر، التي كانت تحت السيطرة البريطانية.
(3)
في مصر ربما لم تنبهر أجاثا كثيرًا بمعالم حضارتها القديمة، لكن تلك المعالم ألهمتها كثيرًا، حتى إنها كتبت هناك أول رواية رومانسية قصيرة، أطلقت عليها اسم “ثلج على رمال الصحراء”، لكن الحظ لم يحالفها لنشرها، وظلت طي الأوراق.
تندلع الحرب العالمية الأولى في عام 1914، وتنضم أجاثا إلى الكثير من الفتيات البريطانيات اللاتي أصبحن ممرضات في الجيش لدعم الجهود العسكرية. تغير الأجواء الحربية والعسكرية الكثير في فكرها وطريقة كتابتها، فتجد نفسها تتجه نحو كتابة الروايات المتعلقة بالتحقيقات وحل الجرائم.
وهكذا خطَّت في ليالي المعسكرات أحداث روايتها الأولى “قضية ستايلز الغامضة”، وقد كانت محظوظة هذه المرة، فتمكنت من نشرها عام 1916، وفي هذا الرواية شهد قراؤها ميلاد شخصية المحقق الفذ الشهير “هيركيول بوارو”، الذي فك لغز جريمة السيدة التي قتلت، ولم يتبقَّ من حولها غير فنجان قهوة مهشم وبعض العلامات القليلة التي تُصَعِّب الوصول إلى الجاني، وصار البعض في إنجلترا على معرفة أولية بشخصية هيركيول بوارو المتحري العبقري، وهكذا نجحت روايتها الأولى التي كتبتها في جنبات الحرب.
الطريف أن هيركيول بوارو لم يكن سوى شخصية خيالية من بنات أفكارها، لكنها بذكاء تحسد عليه استطاعت أن تجسده في عالم رواياتها في السنوات التالية حتى إن بعض قرائها – من شدة تصديق الكثيرين لسلسلة روايات هيركيول بوارو – تخيل أنه شخصية تحرِّ قانوني حقيقية.
(4)
قبل نشر روايتها بسنتين كان قلبها على موعد مع الكولونيل أركيبالد كريستي، فتزوجته وحصلت منه على لقبها الذي اشتهرت به (أجاثا كريستي).
وبحلول عام 1923 وكشف لغز مقبرة توت عنخ أمون المصرية الشهيرة، تحمست أجاثا كثيرًا لهذا الحدث، وقررت أن تخبر قرَّاءها أن هيركيول بوارو لا يزال موجودًا، فكتبت قصة قصيرة بطلها محققها السري بعنوان “مغامرة في مقبرة مصرية”.
خمس سنوات تمر وتنفصل عن زوجها، وتقرر أن تسافر من جديد، وتختار جزر الكاريبي، لكن قبل رحيلها بيومين يقترح أصدقاؤها وجهة بديلة وهي بغداد، حيث سيكون سفرها عبر قطار الشرق السريع الفاخر بعد الخروج من بريطانيا نحو الشرق.
تكمن عبقرية أجاثا في قدرتها على تحويل ما يدور حولها إلى إلهام قصصي، فرحلة عبر قطار فاخر كانت كافية لتلهمها بواحدة من أكثر رواياتها نجاحًا وأكثرها انتشارًا في تاريخها، وذلك دون أن يكون ثمة حدث غير مألوف في الرحلة أو أمر خارق للعادة، مجرد رحلة على متن قطار تتحول إلى حكاية تسلب قلوب القراء وعقول المشاهدين بعد تحويلها إلى فيلم سينمائي بعد ذلك بعقود طويلة، وهي رواية “جريمة في قطار الشرق السريع”.
تصل أجاثا إلى العراق، وتتوجه إلى موقع أثري شهير لمدينة أور التي كانت عاصمة الدولة السومرية، تلتقي صدفة بعثة بريطانية تنقب عن الآثار في تلك المدينة الزاخرة بالتاريخ، يشارك في هذه البعثة الأستاذ الجامعي ليونارد وولي وزوجته عالمة الآثار كاثرين وولي التي كانت من محبي أجاثا بشدة.
تنبهر أجاثا بأعمال التنقيب والحفر، ويشجعها العالمان على مرافقتهما، حتى إنهما وجها لها دعوة في عام 1930 لتشارك معهما في أعمال البعثة، لكنهما لم يتوقعا أن تكون دعوتهما بوابة واسعة للكثير من التغيرات في حياتها.
تلتقي أجاثا في أور السومرية العراقية الباحث والعالم ماكس مالوان، الذي كان يبلغ من العمر وقتها 25 عامًا، وقد حضر إلى البعثة بعد تغيبه عن البعثة الأولى بسبب مرضه، ليقع اللقاء بينه وبين أجاثا للمرة الأولى.
(5)
تتلقى أجاثا رسالة من بريطانيا بأن ابنتها روزاليند أصابها المرض، وعليها الحضور لأجلها سريعًا، فتعود بالفعل إلى بريطانيا بصحبة ماكس مالوان الذي يصغرها بأربعة عشر عامًا تقريبًا، ولم يكونا بحاجة إلى أكثر من 6 أشهر حتى يتخذا قرار الزواج دون النظر لفارق العمر بينهما، فقد جمع بينهما الحب والتنقيب، وكانت مهماته الاستكشافية ملهمة لها ورواياتها ممتعة له.
تكتسب أجاثا خبرة واسعة في رحلات التنقيب والاستكشاف التي شاركت فيها مع زوجها، لدرجة أنها تولت الإعداد لرحلاته والتأكد من مقتنيات كل رحلة وتجهيزاتها، بل صارت تشاركه في مهام التنقيب في الشرق الأوسط، وقد كان كلاهما سعيدًا بتلك المشاركة المبهجة والداعمة.
في عام 1922 توجها إلى مصر من جديد، ثم إلى جنوب السودان على متن سفينة كانت مملوكة للعائلة المالكة في مصر وتحولت لاحقًا إلى سفينة سياحية. جابت السفينة مسارها عبر النيل فيما كانت أجاثا تسجل ملاحظاتها وأفكارها عما تشاهده من أجواء لا شبيه لها في بريطانيا.
أحب ماكس سعادة زوجته أجاثا برؤية النيل في مصر والأجواء الجميلة فيه، فكان يصحبها في كل رحلاته إلى هناك، حتى إنها عادت بعد هذه الرحلة بعدة سنوات إلى أسوان، فأقامت برفقة زوجها في فندق “الكتاراكت” الشهير، وقضت هناك مدة طويلة في نافذة غرفتها جالسة أمام النيل، تستلهم منه ويلهمها دون توقف.
حولت أجاثا تلك الإقامة الطويلة فيما بعد إلى واحدة من أشهر وأنجح روايات مسيرتها بالكامل وهي “جريمة قتل على النيل”؛ فقد جمعت فيها بين نظرتها العبقرية في روايات الغموض والجريمة وبين الأجواء والملاحظات التي سجلتها عن النيل ومساراته وما حوله، لتقدم عملًا عبقريًّا.
ظلت أجاثا بعد سنوات من كتابة روايتها عن النيل متعلقة بمدينة أسوان لا تنساها، حتى إنها ظلت كلما قرأت الرواية تتذكر أيامها وهي جالسة فيها أمام النيل، بل وتتخيل نفسها من بين شخوص الرواية تحيا بالقرب من شاطئ النيل، فأحداث الرواية تدور مع المحقق هيركيول بوارو بجانب فندق الكتاراكت والشخوص والأحداث كلها تتمركز حول النيل وأسوان ووادي حلفا تحديدًا، كونها واحدة من أكثر المدن التي أحبتها أجاثا واستلهمت منها الكثير.
(6)
تندلع الحرب العالمية الثانية في عام 1939، وتتوقف رحلات أجاثا وزوجها إلى الشرق الأوسط، تعود إلى بريطانيا برفقة ابنتها، ويبقى زوجها فترة في القاهرة بعدما تولى وظيفة في وزارة الطيران المصرية لإتقانه العربية وحاجتهم إلى وجوده بسبب ظروف الحرب.
وعلى الرغم من توقف رحلات أجاثا نحو الشرق الأوسط الذي أحبته، إلا أنه ظل عالقًا بذهنها بوضوح، فكتبت خلال فترة الحرب العالمية الثانية مذكرات حكت فيها مغامرات واكتشافات زوجها في مصر والسودان.
تقرر أجاثا فيما بعد أن تكتب رواية عن عمليات الحفر والتنقيب في سوريا والعراق، حاملة معها تلك النكهة الغامضة التي تحب إضافتها دومًا لما تكتبه، جامعة بين ذكريات المدن الجميلة والموهبة وحب الكتابة.
لقد وجدت أجاثا في مدن الشرق البسيطة الفقيرة التفاصيل التي تميز الحياة العادية، والتي كانت ترى أنها أكثر إلهامًا من الاكتشافات الأثرية الخارقة، فحتى أدوات الطعام والمصنوعات اليدوية وغيرها من الأمور البسيطة كانت كفيلة بمنحها الصورة التي تبحث عنها ولا تجدها في بلادها.
(7)
ربما كانت الدول الأوروبية جميلة بما يكفي لتبهر أنظار الكثيرين، لكن التفاصيل البسيطة بجمالها وبساطتها التي وجدتها أجاثا في الشرق ألهمتها لتكتب الكثير من رواياتها في واحدة من أغرب المفارقات التي شكلت حياة كاتبة عاشت الشق الأكبر من طفولتها لا تبارح حدود مدينتها أو حتى قريتها، لتجد نفسها تكتب عن عالم لم تتخيله، أو ربما سمعت عنه ما يرويه أنصار الفكر الاستعماري الغربي عن المجتمع العربي الشرقي، لكنه وحتى هذه اللحظة يُجَسَّد في أعمالها التي تتحول تباعًا لنسخ سينمائية ودرامية تجذب أنظار الملايين من المشاهدين حول العالم.
ترحل أجاثا كريستي عن عالمنا في الثاني عشر من يناير/تشرين الثاني من عام 1976 تاركة خلفها عشرات الروايات التي ما تزال تترجم وتقرأ حتى الآن وتبهر الكثيرين، وخلدت معها قصتي حب فارقتين: الأولى لزوجها، والثانية لأرض يجري فيها ينبوع صاف ألهم حكاياتها.