(1)
معروف أن الأفكار على قارعة الطريق، نمر كلنا بها، الماهرون هم الذين يجيدون اصطيادها ويتعاملون معها، على خلاف الآخرين العابرين في صمت، لا تحتاج الأفكار المهمة إلى أغلفة مزركشة لتشد الانتباه، الذكاء أن تحول العادي إلى مذهل، هذا إذا كنت من عشَّاق الحكايات، الأختان بورتر مثالًا.
(2)
تولد آنا ماريا بورتر في عام 1780 في مقاطعة درم durham ، التي كانت تتبع إسكتلندا في ذلك الوقت، لتصبح الطفلة الخامسة في عائلة الطبيب الذي رحل عن الحياة بعد ميلادها بوقت قصير، تتفوق في المدرسة وهي بنت خمس سنوات فقط.
مغرمة هي بحكايات الجدات، بل كل النساء اللواتي يكبرنها سنًّا، تخرج من منزلها كل يوم لتجلس أمام واحدة منهن، تستمتع بما يسردن من حكايات عن تاريخ إسكتلندا، القرى والمدن والبلدات.
كثيرات هن من يستمعن معها، لكن وحدها تفعل أمرًا مختلفًا، فقد بدأت تكتب وتدون ما تنصت إليه من حكايات، وتستمر كذلك حتى تبلغ الثالثة عشرة من العمر، فيصبح ما لديها يكفي لصدور كتاب بعنوان “قصص غير فنية”.
لم تنته حكايات الجدات عند هذا الحد، ولم تشبع آنا ماريا مما سمعت، فنهلت منهن المزيد والمزيد، وفي خلال العامين التالين كانت قد انتهت من تأليف الجزء الثاني من كتابها الأول، مسجِّلًا وموثِّقًا لحكايات قديمة من تاريخ البلدة والقرية.
(3)
ربما لم تكن تدري آنا ماريا أن حكايات الجدات التي سجلتها وهي في سنِّ ما بين الطفولة والشباب ستكون اللبنة الأولى في تاريخنا الحديث لعالم الرواية التاريخية، الحكاية الممتعة التي تحوي التاريخ بطريقة روائية محبَّبة لا يمل القارئ منها.
خمسة عشر عامًا فقط كانت كافية لتدخل الفتاة عالم الكُتَّاب والمؤلفين بكتابين سيحبهما الجميع، فمن منا لا يحب الجدات وحكاياتهن الصادقة، والروح الدافئة المنبعثة منها.
لم تكن أختها الكبرى جين غائبة عن ذلك كله، فقد اجتمع كلاهما على حب القصص والحكايات وسردها، وبدأ ينشأ بينهما ما يشبه التحالف والاتفاق على الكتابة القصصية بمختلف أشكالها.
تنتقل العائلة إلى لندن، وتقرر آنا ماريا أن تواصل كتابة هذا النوع من الروايات، لتجمع ما بين الكتابة التاريخية والخيال الروائي، فطبع لها رواية (Walsh Coliville)، وقد كانت ردة الفعل متفاوتة، فالجمهور البريطاني لم يكن معتادًا على الراوية فنًّا أدبيًّا مقبولًا، لكن المجموعات الدينية في لندن تتقبل الراوية باعتبار الاتجاه الذي سارت فيه حكاية البطل كونه شابًّا مستقيمًا، قاوم الانجرار نحو الشر، والتزم بطريق الخير.
في عام 1798 تصدر لها رواية أخرى بعنوان أوكتافيا، لكن ردود الفعل هذه المرة لم تكن في صالحها، فالكثيرون تعاملوا معها بصفتها رواية وحسب، دون مدح أو ذم، فيما نصحها البعض بالابتعاد عن كتابة الروايات والالتفات لأمر أكثر أهمية.
تكتب آنا ماريا روايتين فيما بعد لم تلقيا أي نجاح تقريبًا، فتقرر التوقف والانغماس في كتابة رواية تعوض كل ذلك، ليصدر لها في عام 1807 رواية “الإخوة المجريون” التي تناولت فيها قصة رومانسية تتقاطع مع أحداث الثورة الفرنسية، لتدمج مجددًا بين الرواية والتاريخ.
نجحت الرواية بشكل كبير، وحققت انتشارًا واسعًا، بل أصبحت من أكثر رواياتها نجاحًا وانتشارًا، كما ترجمت إلى الفرنسية، وخرجت في عدة طبعات لشدة الإقبال عليها.
(4)
قبل ذلك بأربع سنوات كانت أختها الكبرى جين قد دخلت على الخط، بإصدارها روايتها الأولى التي دمجت فيها أيضًا الأحداث التاريخية الحقيقية مع الحبكة الروائية اللطيفة، تضمنت روايتها (Thaddeus of Warsaw) شهادات عيان لجنود بريطانيين ولاجئين بولنديين هاربين من غزو تعرضت له بلادهم في سنة 1790.
بدا أن ما تفعله الأختان غريبًا على المجتمع البريطاني وجديدًا عليه، بل إن البعض ذهب إلى أنهما ابتكرا نوعًا جديدًا من الأدب والكتابة، كانت لهما الريادة فيه، وهو توثيق التاريخ من زاوية الدراما.
في هذا الزمن كانت متعة البريطانيين هي متابعة العروض المسرحية، في قاعات واسعة دون سقف أحيانًا، بفِرَق مسرحية محدودة الإمكانيات، تقتبس أعمالها من روايات الكُتَّاب، وتقدمها على خشبة المسرح، وسط انتباه وصرخات الجماهير التي تصفق بحبٍّ وإعجاب أحيانًا، أو تلقي الشتائم وبقايا الطعام على الممثلين أحيانًا أخرى.
كانت البوابة التي عبر منها الأختان بورتر هي ما يقدم في المسرحيات، لكن من بوابة التاريخ، بعيدًا عن كتابات شكسبير التي سيطرت على وجدان الأوروبيين عامة والبريطانيين خاصة في تلك الحقبة.
تشعر جين بالحنين إلى إسكتلندا والكتابة عنها، فتكتب روايتها الجديدة في عام 1810، والتي كان أبطالها مجموعة من المقاتلين الأبطال في إسكتلندا، الذين خاضوا أحداثًا حقيقية ومعارك ضارية لأجل أرضهم، وأدمجت في الرواية شخصيات خيالية، وقصصًا رومانسية، وتسلحت بكافة العناصر التي احتاجتها الرواية لتكون قوية بما يكفي.
ولأن روايات الأختين متشبعة بالكثير من الدعوات إلى الحرية والثورة وكسر القيود المفروضة من الطغاة، فقد اعتبرت فرنسا في زمن نابليون رواية جين (Thaddeus of Warsaw) تهديدًا لسلطة الحكم، فحظرت نشرها في كافة المدن الفرنسية، وسرى الحظر إلى كافة رواياتها هي وأختها باعتبارها خطرًا مهدِّدًا لأمن السلطة، وداعية للثورة والتمرد.
(5)
في عام 1814 يصدر في بريطانيا 65 كتابًا، وكان من نصيب آنا ماريا رواية (The Recluse of Norway) التي تناولت قصصًا تاريخية وأحداثًا رومانسية عن الحاكم ثيودور والنبلاء المحيطين به في قصره.
لم تكن آنا ماريا تتخيل أن تنجح الرواية بهذا الشكل الذي جعلها تنافس روايات المشاهير التي صدرت في العام نفسه، وكانت تلك واحدة من أهم العلامات على نجاح الصنف الأدبي الجديد الذي تنتجه الأختان، والذي لم يسبقهما أي أحد إليه، فكانت لهما الريادة فيه.
في تلك السنوات كان هناك شاعر وروائي بريطاني مشهور عرف باسم والتر سكوت، وهو حاصل على جائزة شاعر بريطانيا العظمى، لكنه للأسف كان من أبرز الذين دخلوا في خلاف مع الأختين بورتر ، فقد نشر رواية حملت اسم “ويفرلي”، اقتبس فيها ما اقتبس من أحداث رواياتهن المنشورة، بحسب ما قالته آنا ماريا، التي أرسلت إلى أختها لتخبرها عن الأمر بغضب.
يمتنع سكوت نهائيًّا عن الاعتراف بالأمر، فتقرر جين الانتقام على طريقتها، فتنشر بعد مرور 12 عامًا قصة قصيرة عن شخص اسمه “لا أحد” تسخر فيها من سكوت، ومن سرقته الأدبية، مشبهة إياه بأنه لا أحد، كما سمت بطل الرواية.
كانت النتيجة هي اصطفاف الكثير ممن ينتمون للوسط الأدبي في بريطانيا خلف سكوت، ومهاجمة جين، واتهامها بأنها كاذبة ومصيرها إلى النسيان فيما سيظل مجد سكوت صامدًا دائمًا.
(6)
تشتد الأزمة على جين وآنا ماريا، وتفقدان الكثير من النجاح الذي حصلتا عليه، ويبدأ الفقر يضرب حياتهما بقسوة، فلم يعد لديهما ما يقيمان به حياة صالحة، حتى حل شهر يونيو/حَزِيران من عام 1832، لتصاب آنا ماريا بالتيفوس وتموت على إثره سريعًا.
ثلاثة أشهر فقط بعد وفاة آنا ماريا يتوفى والتر سكوت، لتقع بعدها واحدة من أغرب المفارقات، فقد سعى مؤيدو سكوت إلى إطلاق حملة جمع تبرعات للحفاظ على مكتبته الخاصة بعد موته، والحفاظ على منزله، ووُجِّهت الدعوة إلى جين التي كانت في ذلك الوقت تحيا حياة الفقر والإفلاس، وتتنقل من حين لآخر بين الغرف الفارغة التي يسمح لها بالإقامة فيها في منازل أصدقائها ومعارفها.
تستجيب جين للدعوة، وتتبرع بآخر ما تملكه في ذلك الوقت، للمساهمة في حماية تراث سكوت الذي لم تعتبره عدوًّا، وإنما اعتبرته رفيق طفولة وشباب.
أقام محبو سكوت والمعجبون به في عام 1840 برجًا رائعا للاحتفال بذكراه في مدينة أدنبره في إسكتلندا متجاهلين جميعهم اتهامات السرقة الأدبية التي وجهت إليه، فيما ظلت جين تعاني حياة الفقر حتى عام 1850، حينما توفيت في شهر مايو/أيَّار، وبعد وفاتها بيعت أوراقها المتبقية في مزاد لم يُدفع فيه سوى مبالغ رمزية مِمَّنْ ظل يتذكرها في ذلك الوقت هي وأختها الراحلة.
كان من بين الأوراق التي بيعت في المزاد الزهيد الآلاف من الرسائل بين جين وأختها آنا ماريا، والتي توزعت بين عدد كبير من مكتبات العالم بعد سنوات من وفاتها، فيما أصبحت رواياتها بعد موتها مشهورة للغاية في الولايات المتحدة وباعت ملايين النسخ.
وكانت مسيرة جين وآنا ماريا هي الباب الذي مهد الطريق أمام اثنتين من أهم الروائيات في التاريخ الحديث وهما شارلوت برونتي صاحبة رائعة “جين إير”، وجين أوستن صاحبة رائعة “كبرياء وغرور”، اللتان نجحتا على مدار سنوات طوال في تقديم مجموعة من أجمل الروايات في التاريخ.