(1)
يختلف الناس بين غارقٍ في ذكرياته، وبين هاربٍ منها، والاثنان يشكوان ألمها.
صاحبنا اليوم قرَّر ألاَّ يكون هذا أو ذاك، اختار أن يصنع منها أفلامًا، فصنعت مجده.
(2)
وُلد بطل حكايتنا في العام 1941 في العاصمة اليابانية طوكيو، حلَّ كطفلٍ ثانٍ بين الأبناء الأربعة لوالديه، فيما كان والده يُدير شركة عائلية لتصنيع دفَّة التوجيه الخاصَّة بالطائرات الحربية المقاتلة في الحرب العالمية الأولى.
تشتعل الأمور في العام 1944 فتخشى عائلته من تعرُّض العاصمة طوكيو للقصف الأمريكي في الحرب العالمية الثانية، فترحل إلى السكن في مدينة يوتسونوميا مؤقتًا، لكنها تضطر إلى الرحيل عنها -هي الأخرى- بعد تعرُّضها للقصف.
لم يحظَ الصبي بطفولة هادئة كغيره؛ فالحرب في الأجواء والصدمات الناتجة عنها تلاحق الجميع.
وحينما يبلغ السادسة من عمره تصاب والدته بمرض عضال، تستمر معاناتها معه لسنوات حتى تفارق الحياة.
(3)
تنتهي الحرب، وتعود الحياة إلى طبيعتها.
يلتحق صاحبنا بالمدرسة الثانوية.
يكتشف هوايته في الرسم، لكن مخيِّلته ما زالت أسيرة سنوات الحرب، فيرسم ما اعتادت عيناه رؤيته في سنوات الألم؛ الطائرات والسفن وكل ما له علاقة بالحرب.
لكن الإحباط يصيب صاحبنا عندما يجد نفسه لا يبتكر جديدًا في رسومه، يشعر في داخله أنها مجرَّد تكرار لتلك الرموز المتميِّزة التي يتابعها، فيقرِّر تمزيق كافَّة الدفاتر التي رسمها على تلك الشاكلة؛ راغبًا في أن يكون إبداعه من خصب خياله.
يتراجع اهتمامه بالرسوم المتحرِّكة بشكل كبير حتى يحل العام 1958، وتُصدر اليابان أول أفلامها للرسوم المتحرِّكة بالألوان، وهو فيلم: (panda and the magic serpent)، ويتجدَّد الأمل في داخله من جديد أن يستطيع إنتاج شيء متميِّز مثل الفيلم الذي شاهده.
(4)
يتخرَّج هياو في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام 1963، وقد درس بالتوازي في نادي أدب الطفل؛ ليحصل على المعرفة الكافية والتدريب العملي على ما يُمكن تقديمه من سينما وقصص للأطفال.
يلتحق بشركة TOEI لإنتاج أفلام الرسوم المتحرِّكة، وفيها يلتقي بواحد من أفضل صنَّاع أفلام الأطفال، وهو إيساو تاكاهاتا، ليشكِّل الثنائي معًا فريقًا بديعًا؛ فالمخضرم إيساو رأى في صاحبنا عقلاً فذًّا، وموهبة واضحة، فقرَّر دعمه، والآخر قرَّر -هو كذلك- أن يستفيد من أستاذه كلَّ ما يطوِّر من مهاراته.
يستمر عمل هياو عدة سنوات كمساعد حتى يحصل أخيرًا على فرصته الأولى لتقديم فيلم من رؤيته في العام 1979 وهو (Lupin III: The castle of Cagliostro) لتكون بصمته السينمائية التي تقفز باسمه ضمن الصف الأول.
ورغم أن الفيلم عجز عن تحقيق إيرادات سينمائية كبيرة، لكنه تحوَّل خلال عامين -أو أقل- إلى واحدة من أهم الكلاسيكيات السينمائية الناجحة، بل واعتبره الكثيرون -فيما بعد- من أهم الأعمال التي قدَّمت تطورًا في عالم أفلام الرسوم المتحرِّكة.
كان الأمر الجدير بالاهتمام هنا هو أن الفيلم لم يكن كتابة منفردة لصاحبنا، وإنما عملاً مشتركًا مع كاتب آخر، لكنه يقرِّر بعدها أن يُطلق العنان لخياله لإعادة تمثيل الصدمات التي عاشها في طفولته، وتحويلها إلى قصص يتمرَّد بها على ما عاشه بدلاً من الهروب منها.
(5)
عام 1984 يقرِّر صاحبنا كتابة فيلم من خياله وحده دون شراكة مع أحد، وبالفعل يخرج علينا بفيلم يحمل اسم: (Nausicaä of the Valley of the Wind)، والذي تُشكِّل قصته صدمة للكثيرين وقتها من صنَّاع الرسوم المتحرِّكة؛ حيث تدور أحداثه حول قرية صغيرة بها غابة تتحوَّل الأجواء فيها إلى أجواء سامة بسبب أسلحة متطوِّرة سابقة لعصرها، فيما تَظهر في هذه القرية فتاة شابة جريئة وشجاعة ومحاربة تقرِّر البحث؛ لوقف تلك الحرب السامة التي تضرب القرية والغابة، دون خوف من المواجهة، أو يأس من الفشل.
تستجمع حكاية الفيلم الكثير من ذكرياته، لكن بصورة سينمائية مجرَّدة من التفاصيل؛ فالحرب المتطوِّرة بأسلحتها التي سمَّمت الأجواء ليست منفصلة عمَّا عاشه هياو وهو صبي يرى الحرب ولا يعرف سببها، أما عن السيدة الشجاعة التي تولَّت البطولة في القصة فلم تكن سوى تخيُّل محبٍّ ومقدِّر لنضال والدته الصعب على مدار سنوات طوال.
كان نضال والدته مُخلدًا في ذاكرته لأكثر من سبب؛ فعلى الرغم من مرضها العضال إلا أنها لم تكن تُظهر أبدًا الاستسلام أو التخلِّي عما يتوجَّب عليها القيام به، كما أن ذاكرتها في سنوات الحرب -وهي تحميه- لم تكن غائبة عن ذهنه، لذا كان قراره الاحتفاء بها كما يستطيع بخياله المتمرد بعيدًا عن آلام الواقع.
نجح الفيلم نجاحًا ضخمًا في فترة عرضه، ووصل إلى عدد ضخم من المشاهدين حول العالم، وكان النقطة المضيئة التي أخبرت الكثيرين عمَّن يكون هياو ميازاكي.
لم يكن الفيلم بابًا للنجاح وحسب، بل كان بوابة لبداية القصة التي غيَّرت مسار هياو المهني بالكامل، وفتحت الطريق أمام مجموعة من أعظم الإنتاجات السينمائية في عالم الرسوم المتحرِّكة حتى اليوم.
(6)
يقرِّر هياو ومعلمه إيساو الخروج من العمل تحت مِظلَّة شركة، وإطلاق أستوديو خاص بهما؛ لتطوير الأفلام التي يكتبانها ويرسمان شخصياتها وأحداثها بأنفسهما، فأطلقا أستوديو جيبلي Ghibli، والذي أصبح من أهم الشركات المنتجة لأفلام الرسوم المتحرِّكة.
بدأ كلا الرفيقين العمل في شركتهما الجديدة بإنتاج تحفٍ سينمائية حقَّة، فقدَّم إيساو تحفته البديعة (Grave of fireflies)، والذي جذب أنظار الملايين حول العالم، وقدَّم صورة مغايرة عن ضحايا الحرب العالمية الثانية من اليابانيين.
دارت حكاية الفيلم حول طفل وأخته فقدا أسرتهما خلال الحرب العالمية الثانية، وبدأ الأخ في خوض مشوار صعب يحمل فيه أخته للهرب بها من أماكن الخطر، ومحاولة العمل -بقدر ما يستطيع فعله جسده الضئيل؛ ليوفر لها الطعام والحماية.
نجح إيساو في حشْد جمهور الفيلم نحو القصة حتى آخر لحظة، بكل التفاصيل المؤلمة التي حوتها القصة عن ضحايا اليابان في تلك الحرب الدموية، حتى استطاع الفيلم أن يحجز مكانه ضمن أبرز أفلام الرسوم المتحرِّكة في التاريخ بلا منازع.
بدت تلك التجربة حافزًا عظيمًا لشركة أستوديو جيبلي التي قدَّمت بداية عظيمة ومبشِّرة في مُستهلِّ عملها؛ لينطلق هياو بقصته الخاصة وفيلمه الخاص (My Neighbor totoro)، وهي واحدة من أجمل وأغرب القصص في نفس الوقت، كما أن ذاكرته وتأثُّر عقله بسنوات حياته الأولى كان حاضرًا في القصة.
تدور حكاية الفيلم حول طفلتين كبراهما ولدت في العام 1948، أي: بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ببضع سنوات فقط، تنتقل الطفلتان إلى قرية ريفية بسبب ظروف عمل والدتهما، لكنهما تتفاجآن ببعض الأرواح الغريبة والمضحكة -أحيانًا- في المنزل.
أثار الفيلم حالة من الغرابة والتعجُّب على مدار سنوات عرضه؛ فبقدر اللُّطف والهدوء المقدَّم في الفيلم، والذي يجعله مناسبًا للأطفال -مستمدين منه روح الأمل والطموح من بطلة الفيلم الصبية الصغيرة- إلا أن الغرائب الخيالية المتكرِّرة في الفيلم -والتي أَوحت في كثير من الأحيان بالضياع والتيه وسط الحقول والزرع- كانت نتاجًا لتصوُّر هياو عن اليابان في سنوات ما بعد الهزيمة والحرب، تيه يتبعه تيه، وغرابة وفقدان، حتى إن مرض والدته كان حاضرًا بالإيحاء في الفيلم، وكانت رغبة هياو في ذلك الربط باليابان واضحًا في تاريخ بداية القصة، والرمزيات البسيطة داخلها.
(7)
استمر هياو في تقديم إبداعاته حتى حل العام 2001 ليطلق واحدة من أنجح أفلام الرسوم المتحرِّكة في تاريخ السينما، وأكثرها تميزًا، وهو فيلم: (Spirited Away)، والذي يدور في عالم خيالي بالكامل، تتجلَّى فيه العبقرية في كونه مُقدَّمًا للأطفال باعتباره فيلمًا عن طفلة تخوض مغامرة شيقة للنجاة، فيما يحمل الفيلم بكافة رمزياته معانيَ عميقة وملموسة أراد بها توجيه سهام الانتقاد والرفض.
تدور قصة الفيلم حول طفلة تصل مع والديها إلى مهرجان احتفالي، وحينما يصل والداها إلى مكان الطعام المفتوح يجلسان أمامه، ويظلان يتناولان الطعام بشراهة غريبة، ودون توقُّف، فيما تدور الطفلة داخل المهرجان؛ لمشاهدة ما يحدث فيه، حتى تتفاجأ بأن كل شيء في المهرجان يتحوَّل ويتغيَّر؛ فيتحوَّل والداها إلى كائنات غريبة الشكل؛ بسبب الشرَه في الطعام، ويختفي الناس الطبيعيون من المهرجان، وتجد الطفلة نفسها في مكان ممتلئ بالشخصيات الغريبة والأشباح.
تحاول الطفلة الهرب، لكنها تجد نفسها في دائرة لا تعرف بدايتها ولا نهايتها، حتى ينتهي بها المطاف داخل مصنع عليها العمل فيه؛ حتى تستطيع الهرب والخروج، في رمزيةٍ لعمل الأطفال في أماكن رفاهية الأثرياء.
ويدور الفيلم في عديد من الرمزيات المشابهة عن شرَه الحياة الحديثة، واستعباد الصغار والفقراء فيها، وغيرها من المعاني التي واجهت -بصورة واضحة- عالم الحداثة ورفاهياته.
ولم تكن المواقف الأخلاقية غائبة عن الفيلم الناجح بعد صدوره؛ ففي العام 2003 تلقَّى هياو ميازاكي دعوة لحضور حفل الأوسكار في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ليحصل على جائزة عن فيلمه: (Spirited away)؛ حيث كان الفيلم أول فيلم في تاريخ جوائز الأوسكار باللغة اليابانية، كما أنه أول فيلم كامل مرسوم بخط اليد يترشح للجائزة، لكن الجيش الأمريكي في ذلك الوقت كان قد دخل العراق، فأعلن ميازاكي -بوضوح- رفضه حضور حفل الأوسكار، أو تسلُّم الجائزة، وأعلن في تصريح رسمي: أنه لا يستطيع قبول جائزة من دولة تقصف العراق.
حَوَت حياة ميازاكي واحدة من أغرب المفارقات؛ فالرجل المتميِّز في رسوم الأفلام المتحرِّكة أعلن اعتزاله في العام 1999 وتوقُّفه عن العمل، لكن جيبلي أقنعته بالعودة والعمل، فقدَّم فيلم (Spirted away) في 2001، ثم جدَّد قرار الاعتزال في العام 2013 لكنه عاد بعدها للعمل، ثم قرَّر الاعتزال في 2020 لكنه وافق مجدَّدًا على العمل بعدها، فيما يذكر أنه سيكون آخر أعماله لجمهوره.
تكشف تلك المفارقة المتمثِّلة في مرات الاعتزال عن رغبة المبدع ميازاكي في التوقُّف والانسحاب إلى جانب هادئ من الحياة، فيما هناك الملايين من الجماهير المحبَّة التي تتوق إلى كل مرة يظهر فيها اسمه أو اسم أستوديو جيبلي على عمل جديد.
وعلى الرغم من أن الرجل تجاوز الثمانينيات من عمره إلاَّ أنه ما زال قادرًا على التخلِّي عن قرار الاعتزال، واستمرار تقديم الإبداعات من حين لآخر.
(8)
ظلَّت والدة هياو حاضرة في مُخيلته طوال الوقت، ولسنوات طوال بعدما أصبح مخرجًا مشهورًا، كانت حاضرة في تصريحاته وإبداعاته؛ ففي كل مرة كان يُسئل عن سبب ظهور بطلات قصصه في صورة امرأة شجاعة مثابرة ومكافحة، كان يستحضر ذِكْر والدته كملهمة لتلك الشخصية.