(1)
الديمقراطية ليست الجنة، لكن الدكتاتورية بالتأكيد هي جهنم، وأسوأ ما فيها أنها ترسخ في الفرد أن لا قيمة له مطلقًا، فلا يبادر إلى أي أمر، ولا يتبنى أي فكرة، وإنما يبقى في انتظار تحرك جماعي، تُرى هل فعلت الديكتاتوريات في بلادنا ذلك؟
(2)
صبيحة التاسع عشر من أبريل/نيسان عام 2015 يستيقظ الجميع حول العالم على خبر يحتل العناوين الرئيسية للصحف العالمية، عن غرق مركب حمل على متنه 800 مهاجر، بعد انطلاقه من السواحل الليبية بساعات، لينتهي مساره في وسط البحر المتوسط، وقد غرق ركابه كافة.
يقرأ الشاب الألماني المقيم في برلين جاكوب شوين (Jackob Schoen) الخبر في صحيفة في منزله كغيره، جاكوب نجح قبل أيام قليلة من الحادث في عبور مرحلة الدراسة الثانوية، صغير السن لكن ثمة فكرة تلمع في رأسه مدفوعة بغضبه من الخبر الذي قرأه لتوه، “لِمَ لا يكون للمهاجرين الفارين من جحيم الحرب في الشرق الأوسط من ينقذهم من الغرق؟ الفكرة مهمة وتستحق المحاولة، لكن تنفيذها ليس بالأمر السهل”، يحدث نفسه.
يفاتح أصدقاء الدراسة والجيرة في الأمر، يتحمس له كثر منهم، ينجح في تكوين فريق من عشرة متطوعين بما فيهم هو، المشكلة الآن في التمويل، والتمويل في حاجة إلى مؤسسة أو جمعية رسمية تقوم بذلك، يتفقون على اسم وشعار، ويؤسسون جمعيتهم، يختارون اسم (Die Jugend Rettet) وتعني بالعربية: “الشباب قادمون للإنقاذ”.
يبحث جاكوب عن كافة الطرق الموثوقة لإنقاذ المهاجرين الواقعين في خطر الغرق في البحر المتوسط، تصيبه الصدمة خلال أبحاثه عندما يعلم أن البحر المتوسط ابتلع في جوفه في عام 2014 وحده 3000 مهاجر بسبب مراكب الهجرة المتهالكة.
يتحول الأمر بالنسبة إليه وإلى فريقه من مجرد رغبة في المساعدة، إلى مهمة إنقاذ أرواح تحتاج إلى ما هو أكثر من التعاطف عبر منشورات فيسبوك وتويتر.
(3)
يطلق الفريق حملة تبرعات لشراء قارب بحري، ستكون مهمته التمركز في نقاط الخطر وانتشال المهاجرين منها، تستمر حملة التمويل إلى أن تنجح بحلول شهر مايو/أيَّار من العام 2016 في جمع حوالي 300 ألف يورو.
يشتري الفريق قارب صيد ليس بالكبير، لكنه يفي بالغرض، يحتفظون باسم القارب كما حصلوا عليه “Luventa” ولا يغيرونه، يلتقي جاكوب وبعضٌ من رفاقه بعضَ الخبراء في مدينة هامبرج الألمانية الساحلية لاستشارتهم فيما يمكن أن يكون الخطوة التالية، ويجري الاتفاق على جعل طاقم القارب 13 شخصًا بما فيهم جاكوب استعدادًا لانطلاق الرحلة الأولى.
يتحرك القارب صبيحة الرابع والعشرين من يوليو/تموز وتصل الرحلة الأولى إلى نقطة قريبة من سواحل مالطا على البحر المتوسط، يفرح الفريق بالعثور على قارب نقل مهاجرين كان قد خرج منذ وقت قريب من السواحل الليبية، ولأنه ما راء كمن سمع، فقد أصيب جاكوب عند رؤية قارب المهاجرين بالخوف والتوتر، فلم يكن يخطر بباله أن يكون الأمر مهيبًا إلى تلك الدرجة، يبدأ المهاجرون في الصعود إلى قاربه، ويتحرك بعدها إلى أقرب نقطة في إيطاليا عند صقلية.
يقرر إعادة الكرَّة من جديد خلال الأسبوع الثاني بعد العملية الأولى، ليتفاجأ هو والفريق أن حصيلة عمليتي الإنقاذ 1300 مهاجر كانوا على وشك الغرق في جوف البحر المتوسط، تصبح المهمة أكثر نضوجًا في أذهانهم، فالوضع في ليبيا وسوريا يزداد تفاقمًا يوما تلو آخر في تلك الأعوام، والمهاجرون يتزايدون هربًا عبر البحر.
(4)
تتعقد الأمور في أوروبا، يرى السياسيون باتجاهاتهم كافة أن المهاجرين عبء يجب على بلادهم التخلص منه، يقررون قوانين أكثر صعوبة في التعامل مع الهجرة غير الشرعية، تقرر إيطاليا معاقبة من يقتربون من سواحلها، فبعدما كان خفر سواحلها يرسل قواربه لإنقاذ المهاجرين وترحيلهم أو السماح بدخولهم أصبح يوقف تحركات قوارب الإنقاذ، وبات الساحل أكثر خطورة من ذي قبل.
تنفذ المجموعة مهمة الإنقاذ الثالثة لرحلة على متنها 427 مهاجرًا، فيما الشائعات والشبهات حول مهمتها تتردد في أروقة الحكومة الإيطالية، وخاصة شرطة السواحل، لتبدأ مرحلة جديدة من الأزمة.
تبادر الشرطة إلى استدعاء أعضاء المجموعة من حين إلى آخر، وإخضاعهم للتحقيق في طبيعة عمليات الإنقاذ التي يقومون بها، مع التلميح بشكوكها في تعاونهم مع عصابات التهريب الدولية، دون توجيه اتهام رسمي.
يوم 10 سبتمبر/أيلول وخلال إحدى مهام الإنقاذ التي تقوم بها السفينة، يتفاجأ الطاقم بالعدد الكبير الذي تجاوز 600 مهاجر، وتوشك الأمور أن تخرج عن السيطرة، حتى يصل قارب إنقاذ بريطاني اسمه (Vos Hestia) ضمن مجموعة قوارب وصلت للمساعدة، ليحمل على متنه مجموعة من المهاجرين لتخفيف الضغط عن القارب، يقود القارب ثلاثة شرطيين من خفر سواحل البحرية، يرى أحدهم 3 أفراد من أصحاب البشرة السمراء، يتركون قارب يوفنتيا ويركبون قاربًا يشتبه في عودته إلى ليبيا من جديد، ليشك رجال الشرطة الثلاثة في أن ثمة اتفاقًا مسبقًا بين قارب المجموعة والمهربين لتسلم المهاجرين، ويتركوا المسئولين عن عملية التهريب يعودون أدراجهم، فيما لا يعلم طاقم سفينة يوفنتيا أي شيء عن هذا، فلم يكن يشغلهم سوى إنقاذ ذلك الكم الكبير بأي طريقة ممكنة.
صبيحة أحد أيام شهر أكتوبر/ تشرين الأول يصل الشرطيون الثلاثة إلى أحد مراكز الشرطة في مدينة تراباني (Trapani) في صقلية للإبلاغ عن علاقة محتملة بين طاقم السفينة يوفنتيا وعصابات المهربين القادمين من ليبيا.
(5)
يرفض طاقم السفينة الاتهامات الموجهة إليه كافة، ويطلب شهادة سفينة إيرلندية كانت ضمن مجموعات الإنقاذ للتأكيد على صدق ما يقولون، لكن شرطة المدينة تستمر في استشعار الشك، لتقرر تعيين ضابط من قوة القسم ليكون ضمن طاقم السفينة البريطانية لمراقبة يوفنتيا عن بعد من حين إلى آخر.
بعد شهر واحد فقط ترسل إدارة حرس السواحل في روما دعوة إلى الفريق للقاء وعقد اتفاق للتعاون في إنقاذ المهاجرين في خطوة لم يفهمها فريق السفينة حينها، لكنهم في النهاية قبلوا بها، وعقدوا الاتفاق بالفعل في سبيل أن يكون ذلك تيسيرًا هامًّا في +مسارهم.
تتحول الأمور بصورة مخيفة في ربيع عام 2017، أي بعد عدة أشهر فقط من التحقيق معهم، حين يظهر سياسي إيطالي معارض يدعى سالفيني في إحدى البرامج الحوارية ليعلن أن شهودًا أكدوا له أن سفن إنقاذ المهاجرين تهرب إلى داخل البلاد أسلحة ومخدرات من قوارب المهربين، وأن صفقة سرية عقدت بين المخابرات الإيطالية وبين سفن الإنقاذ لتسيير تلك العمليات.
في الحقيقة لم يكن سالفيني يمتلك أي أدلة أو شهود على ما قاله، لكن أراد أن يلقي حجرًا يحرك به المياه لصالحه ضمن النزاعات السياسية التي لا تنتهي حول أزمة استقبال المهاجرين.
يقرر الشرطيون الثلاثة التواصل مع السياسي سالفيني وإبلاغه بشكوكهم التي قالوا: إن الشرطة لم تتعامل معها على محمل الجد. ليظهر سالفيني بعدها أمام وسائل الإعلام ويعلن أنه تحصل على معلومات مؤكدة من مصادر موثوقة تؤكد اتهامه لفريق الإنقاذ المالك لسفينة يوفنتيا، ثم يقرر اتخاذ خطوة أكثر تصعيدية باستخدام القضية كلها في صراع حزبه المحسوب على اليمين المتطرف في سجاله أمام اليسار الحاكم.
تخرج الأمور عن السيطرة، ويتحول حلم فريق قارب يوفنتيا إلى كابوس في غضون مدة قصيرة للغاية.
يبدأ نشطاء اليمين المتطرف في الانتشار عبر سواحل أوروبا بحلول ديسمبر/تشرين الأول 2016 لفرض ما أسموه حالة من المراقبة، وتنشر بعدها بعدة أشهر مؤسسة هولندية غامضة اسمها “جيفيرا” (Gefira) – وهي مؤسسة تدعي “حماية الشعوب الأوروبية الأصلية من الانقراض” – تقريرًا تقول فيه: إن عمليات إنقاذ المهاجرين ما هي إلا شكل من أشكال الاحتيال. وتبدأ الفكرة في الانتشار بشكل فيروسي عبر منصات التواصل الاجتماعي.
يعلن المدعي العام لمدينة صقلية كارميلو زوكارو فتح تحقيق في نشاط منظمات الإنقاذ، ليخرج بعدها معلنًا أنه مجرد نشاط مشبوه بين المنظمات المدنية وعصابات التهريب، لتدمير اقتصاد إيطاليا وإضعافه.
ينشر بعدها مدون إيطالي على موقع فيسبوك مقطع فيديو أسماه “الحقيقة وراء المهاجرين”، يقول فيه: إن الكثير من المهاجرين دخلوا صقلية وروما للعمل على سيارات التاكسي والسيطرة عليها لتحقيق مكاسب اقتصادية على حساب الدولة. وينتشر الفيديو بصورة مذهلة، وتستمر كرة الثلج في التدحرج.
(6)
يتعرض طاقم السفينة في شهر مايو/أيَّار من عام 2017 لردة الفعل الأكثر وضوحًا ومباشرة بطردهم مرتين من نقاط الإنقاذ، ومنعهم من استقبال قوارب المهاجرين وإنقاذها، لكنهم في ذلك الوقت كانت حصيلتهم قد تجاوزت 14 ألف مهاجر، نجحوا بالفعل في إنقاذهم على الرغم من كل الضربات والهجمات التي استمرت على مدار شهور طويلة من أطراف عدة.
بحلول صيف عام 2017 يعلن وزير الداخلية الإيطالي ماركو مينيتي عن وثيقة ملزمة لكافة فرق الإنقاذ تلزمهم بالحركة مباشرة بمن ينقذونهم نحو الموانئ الإيطالية، والامتناع بشكل نهائي عن نقلهم لسفن كبيرة، لمنع أي عمليات تهريب، ليصبح وصول المهاجرين خاضعًا لتفتيش السلطات الإيطالية في الموانئ مباشرة.
ترفض مجموعة يوفنتيا التوقيع على الوثيقة، معلنة أنها ستزيد من عدد الغرقى، وستعطل كل ما يفعلونه من أجل إنقاذ حياة المهاجرين، لتصبح المجموعة في بؤرة الانتباه أمام شاشات الإعلام الإيطالي، ويبدأ البعض في الإعلان عن أن ذلك الرفض ما هو إلا خشية فقدان المجموعة لمصالحها المالية التي يحصلون عليها من عمليات التهريب، ويبدأ قطاع كبير من المجتمع الإيطالي بالفعل في التعامل معهم باعتبارهم مصدر خطر على المجتمع الإيطالي واقتصاده.
وبحلول سبتمبر/أيلول تبدأ قوارب منظمات الإنقاذ بمختلف مسمياتها في الاختفاء من الموانئ والامتناع عن أي مهام.
تخرج الطلقة مباشرة من السلاح في يونيو/حَزِيران من العام 2018 بتوجيه اتهام رسمي لفريق القارب يوفنتيا العشرة بالمشاركة مع مجموعات تهريب في الإضرار بالمجتمع الإيطالي واقتصاده وتهريب بضائع ممنوعة، وينتهي بهم الحال داخل أحد السجون الإيطالية تحت مظلة قضية قد يصل الحكم فيها إلى السجن عشرين عامًا.
يظهر بيترو جالو ((Pietro Gallo أحد الشرطيين الثلاثة الذين أثاروا القضية في بدايتها ليعلن أنه لم يقل أبدًا: إن فريق يوفنتيا يرتبط بعلاقة مع المهربين، وإن ذلك كان مجرد حدس وحسب، كما أن حديثهم مع السياسي سالفيني كان بحثًا عن دعمه لتقديم المساعدة للأعمال الإنسانية والخيرية في أوروبا.
وفي لحظتنا الراهنة تلك لا نستطيع القول: إننا بصدد نهاية حزينة أو سعيدة، فطاقم الإنقاذ يقبع في السجن في انتظار مصيره، لكن الحكاية لم تنته بعد، وما تزال تحمل في طياتها أملًا في النجاة لحلم لم يكن يهدف إلى شيء إلا إنقاذ حيوات الفارين من جحيم الحرب والفقر وتوابع الاستعمار، فمن ينقذ يا ترى المنقذين؟