(1)
من منا لا يعرفه، “بينوكيو”، الطفل المصنوع من الخشب، واحدة من أشهر قصص الأطفال الكرتونية، التي أنتجتها ديزني في الأربعينيات، وحملت في طياتها مغامرات شيقة ونهايات سعيدة، لكن كم منا يعرف الحكاية الحقيقية والمختلفة التي استمدت منها ديزني فلمها؟ بل كم منا يعرف مبتكر الشخصية وحياته الحافلة؟
(2)
إذا زرت قرية كولودي الإيطالية الواقعة على منحدر غرب مدينة فلورنسا، ستشعر للوهلة الأولى أنك بت في الجنة، حديقة كبيرة خضراء، تتزين بالنوافير والسلالم الحجرية وتجمعات الزهور والرخام العتيق، وعلى الأطراف منازل حجرية تضفي على القرية صورة جمالية تعلق بالذهن.
هنا يعيش الطفل كارول لورينزيني مع أهله وأقاربه حياة عادية روتينية، إلى أن يقرر في بداية شبابه أن يصبح كاتبًا، تحت اسم “كارلول كولودي”، ويتخصص في الكتابة السياسية والساخرة.
تستمر حياته بصورة روتينية، إلى أن يصل إلى الخمسين من عمره، وقد أصابه الملل، فيتخذ قرارًا شجاعًا بالتغيير، وأن يفعل غير ما اعتاد لسنوات طوال، فيتجه إلى كتابة قصص للأطفال.
(3)
في عام 1881 يبدأ في نشر قصصه على حلقات متتابعة في مجلة “جورنال بير إي بامبيني”، عن جيبيتو صانع الدمى الخشبية الذي خطر على باله أن يصنع دمية لطفل ذي أنف طويل قليلًا وأطلق عليها اسم بينوكيو، ليتفاجأ أن الدمية دبت فيها الحياة، وصارت طفلًا ذا سلوك غريب وطبيعة أغرب.
يحاول جيبيتو أن يجعل من بينوكيو طفلًا صالحًا، لكن أنف الطفل تطول فجأة عندما يكذب كذبته الأولى، وتستمر المفاجأة: في كل كذبة تطول أنفه.
تعتمل الرغبة في رأس كارلو وهو يؤلف القصة، ويستطرد في فصولها ليسخر من كل الكاذبين في بلاده، كأنه ما زال متورطًا في مقالاته السياسية ولكن بشكل آخر، يرغب في أن يُكّره الجيل الناشئ في الكذب وما يتبعه.
(4)
يعتقد صاحبنا أن الكثير من الأطفال في بلاده ليس بوسعهم الاستمتاع بالحياة الحقيقية ما لم يجد ما يسد به جوعه، ويحميه من البرد، ويعلمه القراءة والكتابة، فاتجه في قصصه لمحاربة الفقر والأمية، مؤمنًا أن الحياة القاسية، تُحَوِّل أبناءها إلى قتلة أو ضحايا ولا سبيل للنجاة منها إلا بالتعليم للحصول على حياة أفضل.
نظرة كارلو القاسية نحو الحياة نابعة مما عاناه في طفولته، فعلى الرغم من جمال طبيعة القرية التي نشأ فيها، إلا أن أسرته وغيرها من أسر العائلات العاملة كانت تعمل خدمًا يحيا في ظروف قاسية يضربها الفقر والاحتياج، كما توفى 4 من إخوته الصغار وهو طفل بسبب الفقر والجوع، لذا فقد كان من الصعب عليه أن يغادر تلك العباءة حتى لو رغب في ذلك.
يحلم كارلو بامتلاك تلك القوة السحرية التي تعيد الأطفال إلى الحياة بعد رحيلهم، حتى يعوض فقدان إخوته الصغار الذين لم يمكن بالإمكان إنقاذهم، ففعل ذلك في حكاياته عدة مرات، لكن ذلك انعكس على حياته الشخصية، فلم يرغب في الزواج أو الإنجاب حتى لا يتكرر ذلك السيناريو الذي عاشه في طفولته، ورغم ذلك يمنح كارلو بطل قصته بينوكيو قصة حب حينما يضعف ويقترب من الوقوع في يد مجموعة من المجرمين، ليتفاجأ بفتاة جميلة ذات شعر أزرق تحاول إنقاذه.
(5)
تحقق حكاياته نجاحًا كبيرًا، ويطلب الناشرون منه أن يكتب نسخة جديدة لصدور طبعة أخرى، وهو ما حدث بالفعل في عام 1883، وكانت تلك هي البوابة الناجحة لكارلو للخروج من عالم الفقر الذي عاشه لوقت طويل.
لكن للأسف لم يطل المقام بكارلو في الحياة بعد نجاح روايته، فتوفى في عام 1890، غير أن حكاياته خاضت رحلة أكبر وأكثر نجاحًا مما كان يعتقد في حياته، حتى حولتها شبكة ديزني إلى فيلم شهير للأطفال بقصة منقحة تناسب الصغار في عام 1940، لتكون أول تحريف فعلي لقصته القاسية، لكن الحكاية لم تنته هنا.
فالأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل وصلت الشهرة إلى كافة أنحاء العالم، مخبرة عن مؤلف قصة بينوكيو بنسختها الأصلية والمنقحة، فكان القرار بتحويل قطعة الأرض الفقيرة التي عاش فيها كارلو وما حولها إلى حديقة كبرى للأطفال، فتبرع الأطفال من كل مكان في إيطاليا حتى أن والت ديزني بنفسه تبرع للمساهمة في الحديقة، ووصل نحات شهير من بريطانيا وصنع تمثالًا بديعًا لشخصية بينوكيو في قلب الحديقة.
(6)
سنوات طوال قبل أن يذهب باحثون في الأدب والنقد إلى حيث عاش كارلو ودارت أحداث حكايته، لتكون المفاجأة أن معظم شخصيات حكايته كانت مستوحاة من أشخاص حقيقيين قابلهم من قبل أو عاش معهم، والمفاجأة أن الشخصيات التي استوحى منها حكايته لم تكن على تلك الشاكلة السوداوية التي رواها.
أول من قدم طرف الخيط لتلك المفاجأة هي الفتاة الجميلة التي قابلت بينوكيو في حكايته وحاولت إنقاذه، فما هي إلا فتاة في الحقيقة تدعى جيوفانا روجينيري، شعرها أزرق وملامحها جميلة، وعيناها تشرقان بالنور، وكانت حياتها عادية، لم تحمل مأساة يمكن الوقوف عندها.
كثير ممن قابلهم كارلو في قريته الفقيرة أو عاش برفقتهم كانوا إلهاما لقصة حزينة أو قاسية في رواية بينوكيو، لكن الحقيقة أن الكثير منهم لم تكن حياتهم بتلك القسوة التي رواها.
ترجمت الرواية فيما بعد لـ 300 لغة، وصنع منها أكثر من 18 فيلمًا وقصة درامية، وصار لدى العالم قصة يرونها عن بينوكيو ذات طابع درامي ممتلئ بالمغامرة، قصة لم يرويها كارلو، ولم يفكر يومً فيها، لكنه كان البوابة ليشاهدها ويتناقلها ملايين الأطفال حول العالم حتى يومنا هذا.
لقد رحل كارلو، لكن ظلت حكايته تروي نفسها فيما بعد بطريقتها أو بطريقة ناقليها.