(1)
إلى أي درجة يمكننا تحمُّل الألم؟ ماذا إذا وصل إلى ذروته، إلى تلك الدرجة التي لا نطيقها بحال من الأحوال، وعندها تنهار دفاعاتنا بالكلية؟
ماذا إذا قدَّم لنا معالج نفسي الحل؟ وبدلاً من أن يجربه علينا، تشاء الأقدار أن يكون هو -رغمًا عنه- محل التجربة.
(2)
فيكتور فرانكل هو الابن الأوسط لعائلة نمساوية تدين باليهودية، يعتني منذ بدايات حياته بأمور علم النفس، ويولي دراستها وفهمها أَهمية كبرى، إلى الحد الذي ما إن ينهي يومه الدراسي في مدرسته الثانوية حتى يندسَّ في فصول علم النفس التطبيقي الليلية.
يكبر الفتي ويكبر هيامه بعلم النفس، فيقصد محاضرات سيغموند فرويد، والذي كان أهم رواد التحليل النفسي في ذلك العصر وأكثرهم شهرة.
في العام 1923 -وبعد نهاية الدراسة الثانوية- يبدأ الفتى في دراسة الطب بجامعة فيينا، وفي العام التالي ينشر أول ورقة بحثية له في دورية علمية، ليصبح -فيما بعد- من أشهر معارضي مدرسة سيغموند فرويد التي تحصر المشاعر والأفكار العاطفية في قالب محدَّد، ويكون من أبرز روَّاد المدرسة المنتقدة له.
تشهد سنواته التالية في الجامعة توسعًا في دراسة علم النفس، لكنه يظل متمركزًا حول فكرة واحدة بعينها يراها بعين الأهمية، وهي “المعنى في حياة الإنسان”، وكيف يمكن أن يشكِّل وصول الإنسان إلى معنى ذي قيمة في حياته سببًا للتعافي والنجاة والبقاء في أصعب الظروف.
لم يكتف فيكتور بالاحتفاظ بفكرته كحبر على ورق، وإنما سعى لتحويلها إلى شيء ذي قيمة بالفعل؛ فدرس -رفقة بعض زملائه- بدءًا من عام 1928 سبب التزايد الواضح في انتحار الشباب في فيينا، وخاصة من فئة الطلاب، وقرروا إنشاء مركز لدراسة تلك الحالة مقدِّمًا خدماته بالمجان للشباب والطلاب، وتمركزت برامج الدعم فيه على مساعدة الشباب على الوصول إلى معنى حقيقي وذي قيمة في حياتهم، وكانت المفاجأة هي أن العام الذي يليه لم تسجل الوثائق الرسمية أي حالة انتحار بين صفوف الشباب.
يقضي الرجل سنواته التالية في تخصص مواجهة الانتحار، والعمل على إيجاد حلول نفسية حقيقية توقف تفشي هذه الظاهرة، حتى يحل العام 1938 وتدخل القوات النازية إلى فيينا فتتوقف أنشطته بسبب يهوديته.
(3)
يتزوج فيكتور في العام 1942 لكن -وبعد تسعة أشهر من زواجه- تلقي القوات النازية القبض عليه، وترسله إلى معسكر أوشفيتز النازي الشهير، لتبدأ رحلته الأكثر قسوة والنقطة الفارقة في حياته.
يبدي فيكتور اهتمامًا بمتابعة حالة المساجين من حوله، واستخراج أمور ذات معنى منها، فتكشف له أن المساجين القادرين على البقاء والاستمرار ليسوا بالضرورة الأكثر صحة أو الأقوى جسديًّا، وإنما مَن كانوا يحملون في عقولهم أملاً نحو المستقبل، وحلمًا بالخروج من ذلك المكان، فكانت قدرتهم على الوصول إلى معنى الحرية وإمكانية تحققها ذات يوم هو ما يبقيهم على قيد الحياة.
أما فيكتور نفسه فقد عمد لإنقاذ نفسه، أن يتخيل حوارات كاملة مع زوجته والتحدث معها وسماع ردودها وكأنها حاضرة معه تؤنسه وتشد من أزره، قبل أن يعرف لاحقًا أنها ماتت داخل معسكر اعتقال آخر.
كما كان يتخيل نفسه يلقي محاضرات أمام حشود كبيرة من الطلاب والمهتمين وهو يحدثهم عن تجربة نجاته من ذلك المعتقل، إلى أن يختمر في عقله فكرة الكتاب الذي أراد أن يوثِّق من خلاله تلك التجربة، وهو كتاب: الإنسان يبحث عن المعنى.
يتذكَّر فيكتور -حينما منحوا راحة لبضع ساعات له ولزملائه- ذلك الشاب المتمسك بالأمل الذي قفز من بينهم فجأة على الرغم من شدة تعبه؛ ليخبرهم أن هناك فرصة ليتحركوا خلسة نحو حديقة خلفية يمكن أن يروا -وهم داخلها- الخضرة على الأرض وغروب الشمس وهي تسير نحو الأفق.
يحكي فيكتور أنهم في تلك اللحظة كانوا قادرين على الشعور بمعنى متميز وجميل للحياة؛ فرؤية الجمال الطبيعي واستشعار وجوده والتصديق بالعودة إليه منح الكثير منهم أملاً كبيرًا في النجاة والعودة ذات يوم، وعدم الخضوع لشعور الضعف والألم الذي يمكنه -وبكل بساطة- أن يقضي على حياة الكثير منهم.
يشاهد الرجل بعينيه الكثير من الرجال ضخام الجثة أقوياء البنية الذين ضربتهم حالة اليأس بعدما كانوا يؤملون أنفسهم بالهرب من ذلك الجحيم، ثم فقدوا الأمل تمامًا، فكانت النتيجة أن قوتهم الكبيرة انهارت أمام اليأس، فانتحر منهم مَن انتحر، ومنهم مَن مات كمدًا بعدما أيقن في نفسه أنه لا سبيل للنجاة.
وصلت قدرة فيكتور على التحمُّل دون طعام إلى درجة وصل معها إلى التأقلم على ذلك بصورة مؤلمة، كاد أن يشعر فيها بدنو الموت منه بسبب ضعف جسده، لكنه كان عادة ما يشعر بالعودة عند تناول اللقمة التالية، تلك التي ادخرها وأرغم نفسه على عدم الاقتراب منها إلا حينما يصل الجوع ذروته.
(4)
توصَّل -مع الوقت- إلى أشكال جديدة من الأفكار فيما يخص المعنى في حياة الإنسان؛ فذلك الرجل الذي كان يساعده -أحيانًا- بالقيام بمهمته بدلاً منه خلف عيون الحراس، كان يفعل ذلك ليشعر أنه موجود على قيد الحياة يفعل ما هو ذا قيمة وما يمنحه معنى لبقائه حيًّا، حتى هو عندما كان يمنح شخصًا ما على وشك الموت قطعة من رغيفه؛ ليقيم أَوَده كان يشعر في داخله بأنه كان سببًا في إنقاذ حياة إنسان آخر، ولو بلُقيمة من رغيفه الضئيل.
كانت الأفكار والتحليلات تعصف برأس الرجل من كثرة الظواهر المحيطة به، فمَن حوله ليسوا مجرد طلاب أصابهم اليأس بسبب عدم الحصول على وظيفة، وإنما بشر محرومون من الحياة بأبسط عواملها، وتنتهي حياة الكثير منهم بالانتحار.
ولأن الكتابة هي الحل فقد لجأ إلى بعض المهربين ليمنحوه بضعة أوراق قليلة وقلمًا مقابل نصف رغيف من طعامه، هذا الرغيف الذي يتحصَّل عليه مرة كل أسبوع، حتى يستطيع كتابة ما وصل إليه وما فكَّر فيه، وبعد مدة طويلة من الكتابة والتدوين استطاع تهريب المخطوطة النهائية لكتابه إلى خارج المعسكر، ذاك الكتاب الذي سماه: البحث عن المعنى.
(5)
ليس أكثر إثارة من أن تضع نظرية ما في علم النفس، ثم تشاء الأقدار أن تكون أنت محل التجربة؛ فقد كان دخوله إلى ذلك المعسكر بمثابة اختبار حقيقي لتلك النظريات التي نادى بها لسنوات، عبر الخروج بمعنى من الألم والمعاناة، فما الذي يجبر المرء على البقاء حيًّا وعدم الانتحار في تلك الظروف؟
كانت الأيام تمر على فيكتور ورفاقه داخل المعتقل دون أن يشعروا بمرورها أو حسابها، حتى مرت 3 سنوات على وجوده داخل المعسكر إلى أن سقطت النازية في 1945، وخرج من المعسكر متفاجئًا أنه استطاع القدرة على البقاء كل هذه الفترة في تلك الظروف دون أن يستسلم للشعور بالموت والانهيار، رغم أن كل ما حوله كان يؤهله لذلك.
(6)
تعرَّض كتاب فيكتور إلى الانتقاد من البعض؛ بوصفه يلوم الضحية ولا يلوم الجاني، ويطلب من الضحية أن ينجو بنفسه ويتحمَّل وحسب، فيما استمرت مدرسته في النمو والازدهار، فعاد الرجل إلى نشاطه كطبيب وكمحاضر للطلاب، وصارت رحلته الأكثر قسوة وصعوبة من العلامات البارزة في قدرة الإنسان على استخلاص المعنى من قلب المحن الأكثر قسوة والنجاة بها.