(1)
“كنت أتخيل أنني في الخمسين من عمري سأحصل على حياة هادئة مسالمة أذهب فيها إلى المقهى لمقابلة الأصدقاء؛ للتحدث عن ماضينا، لكنني حينما عدت إلى سراييفو بعد طول غياب لم أستطع أن أجد ذلك”.
(2)
الحرب ليست ما تُحْدثه هنا أو ما تُحْدثه الآن، الحرب ما تُحْدثه في أي وقت وفي أي مكان، قد تقع في مكانٍ ما وفي زمنٍ محدَّد، لكن تأثيرها يتجاوز الزمان والمكان، وقد يكتشف الضحايا في وقت متأخر ما فعلته بهم الحرب بعد أن انتهت بسنوات طويلة.
خذ عندك مثلاً هذا الرجل، فقد ولد في العام 1960 في قرية تقع في الشمال الشرقي من البوسنة والهرسك، تحيط بها المناجم، عمل بها جده ووالده، وكان إذا سئل وهو طفل عن أمنيته أجاب: “عامل مناجم”.
يدخل التيلفزيون بيت عائلته في نهاية الستينيات، تسحره تلك المسرحيات المعروضة وهو ما زال طفلاً في الثامنة من عمره، يراها تتناول حياة شخص معين، حياة مليئة بالاحتمالات الجيدة، لكنها تنتهي بموت فعلي أو معنوي.
كانت تلك -كما يقول بنفسه- تجربته الأولى مع الحزن، تجربة طرحت على نفسه العديد من الأسئلة عن الحياة، ومنذ ذلك الحين وهو يواصل طرح الأسئلة، الأمر الذي حوَّله من عامل منجم مستقبلي إلى كاتب، فدرس الأدب المقارن في الجامعة، ثم بعد تخرجه قرَّر العمل محررًا في إحدى الصحف المحلية في العاصمة البوسنية سراييفو.
ينشر ديوانه الأول في عام 1984، ويفوز كأفضل ديوان في بلاده في ذلك العام، ثم يعمل محررًا وكاتبًا بعدة مجلات وجرائد أدبية، ويؤسِّس مع عدد من أصدقائه مجلة “شبح الحرية” التي تهدف لتشجيع الكتُّاب صغار السن غير المعروفين.
(3)
تندلع الحرب في بلاده عام 1992، يبقى مع عائلته متشبثًا ببلده، وفي العام الأول للحرب يصدر ديوانه الشهير: “أغاني سراييفو الحزينة”، وهو مزيج من قصائد الشعر والقصص القصيرة، يحكي فيها عن مشاعره وأهل بلده وأحزانهم خلال الحرب، وقد تُرجم إلى الإنجليزية لاحقًا.
يقضي سنوات الحرب والحصار ، يتألم بشدة للهجمات الصربية على كافة المعالم الثقافية في سراييفو، وما ترتكبه القوات الصربية من جرائم محو وتدمير الهوية البوسنية في المدينة، وإحلال هوية مختلفة، تنزع عن المدينة ذاكرتها، آه من الذاكرة!
يتعاون مع عدد من المثقفين في تأسيس مجلة “داني” (الأيام)، في محاولة لتشجيع روح التعددية وقبول الآخر في وقت غلبت فيه روح الإبادة الجماعية المنظَّمة التي اعتمدتها القوات الصربية.
تواصل “داني” أو “الأيام” الصدور في مدينة واقعة تحت حصار شامل، لا ماء ولا كهرباء ولا تدفئة في شتائها البارد، إلى جانب نقص شديد في مستلزمات الطباعة، مدينة مكشوفة على مدار الساعة لقنابل وصواريخ القوات الصربية.
في عام 1993 يكتب ويساهم في إخراج فيلم “سأرتحل” بكاميرا واحدة، وتحت ظروف عمل متقشفة وقاسية، ليحصل الفيلم على جائزة من مهرجان برلين السينمائي لعام 1994، ويُحتفى به في مهرجان سينما البحر المتوسط بإيطاليا في عام 1995.
(4)
صحيح أن الحرب انتهت عام 1995، لكنه يكتشف أنه فقد كل شيء، بيته وأملاكه وأعِزَّاءه، فقرر الهجرة مع زوجته وأولاده إلى الولايات المتحدة تاركًا خلفه سنوات طوالاً من الذكريات والأحداث، التي أصر أن يظل محتفظًا بها في وجدانه، فهو يبجل الذكريات.
يصل إلى مهجره، بلا مال أو معارف، يستخدم خبرته الصحفية حتى يحصل على وظيفة في وكالة رويترز للأنباء، ورويدًا رويدًا تستقر أحواله ويفوز بحياة مستقرة برفقة عائلته.
لكنه يواجه وضعًا غريبًا للغاية، فبصفته بوسني، هو بالنسبة للآسيويين مواطن أوروبي، وفي نظر الأوروبيين هو مسلم، وبالنسبة للأمريكيين هو روسي عليه الرحيل والعودة إلى روسيا.
يُشعره ذلك التناقض الغريب في تعامل الجنسيات المختلفة معه أنه يحمل على أكتافه خطايا الآخرين وذكرياتهم والقذائف التي سقطت على منازل مدينته خلال الحرب، والأسوأ أنه دائمًا مرشح لتصنيف الناس من حوله وأحكامهم عليه.
في العام 2010 يكمل الرجل عامه الخمسين، لكنه يصاب بأزمة قلبية، يتجاوز الأمر هذه الوعكة الصحية، لتفتح الباب على تغير كبير في حياته وخوفٍ لطالما كان يحاول مقاومته، فطبيب القلب المعالج له وصف له بعض الأدوية، وحينما سأله عن تأثيراتها السلبية المحتملة أجابه الطبيب: إنها في بعض الأحيان قد تسبب فقدانًا في الذاكرة.
اشتكى من أنه لا يرغب أن يفقد ذاكرته أو ينسى ماضيه، فأجابوه بأن فقدان الذاكرة لن يقتله لكن مرض القلب قد يفعل، لكنه رأى أن فقدانه للذاكرة سيجعله يحيا ميتًا بالفعل.
(5)
يتفتق ذهنه عن فكرة، يقرِّر أن يخوض مع ابنه رحلة في أرجاء أمريكا التي تنقَّل بينها ليحيي ذاكرته قبل أن يفقدها، فيسافران إلى بيتهم الأول في أريزونا التي استقروا بها بعد القدوم من البوسنة، ويطلب من ابنه تصوير الطرق والمناطق المحيطة، ليسترجع معه كل الذكريات التي مرت عليه وعائلته حتى يسجلها ويوثِّقها قبل أن تُمحى من عقله.
لكن القدر لا يمهله كثيرًا، ففي العام التالي تصاب زوجته بالزهايمر بدرجة متأخرة تفقد على إثرها الذاكرة تمامًا، حتى تأتي اللحظة التي يقف فيها أمامها، ويسألها الطبيب إن كانت تعرفه أم لا، فيصيبه الصمت بعض الوقت، حتى يظن أنها نسيته تمامًا كما نسيت كل شيء، لحظات مرَّت قبل أن تتغير ملامح وجهها وتتذكره وتناديه باسمه، كأنه طفلها وقد أنجبته للتو.
(6)
وكما فعل في منفاه، أراد أن يفعل مع بلده، فيقرِّر زيارة سراييفو لأول مرة بعد غياب 25 عامًا عنها قضاها في منفاه الأمريكي، ليسترجع بعضًا من ذكرياته في بلده، ضمن قراره بأن يوثق ذاكرته ويحبسها في كتاب من ثلاثة أقسام يحمل شكلاً من أشكال الرواية عن نفسه وعن زوجته ونجله، ويتزين غلافه بالعنوان: “قلبي”.
جاء وحي الاسم بالنسبة له من الواقعة نفسها؛ فقلبه الذي حمل بداخله الكثير من المشاعر والأفكار، كان مرضه هو السبب في احتمالية أن ينسى كل شيء في حياته.
أصبح كتابه “قلبي” أهم ما نشره الرجل في مسيرته وحصل على شهرة ونجاح كبيرين بين الناس بعدما تُرجم للإنجليزية، ولارتباطه بواقعة مرض القلب الشهير، كما أن اللافت فيه أنه لم يكن ذكريات لاجئ هارب من الحرب يحكي عن الدموية والقتل والموت، وإنما ذكريات إنسانية توثِّق لحظات جميلة وحقيقية من الذاكرة كنوع من أنواع المقاومة والحماية لها.
(7)
يقول الأديب البوسني الشهير شمس الدين محمدينوفيتش واصفًا حالته في كتابه “قلبي”:
كنت أتخيل أنني في الخمسين من عمري سأحصل على حياة هادئة مسالمة أذهب فيها إلى المقهى لمقابلة الأصدقاء؛ للتحدث عن ماضينا، لكنني حينما عدت إلى سراييفو بعد طول غياب لم أستطع أن أجد ذلك، غير أنني ما زلت أجد فرصتي الدائمة للكتابة والتدوين، ما وصلت إليه الآن أنه بمجرد أن تغادر إلى المنفى لا يمكنك العودة من جديد، إنك تفقد فكرة الوطن ومعناه، لقد عدت إلى سراييفو قبل عامين لكنني لا أستطيع القول: إنني عدت إلى بيتي، اعتقدت أنه لم يعد بإمكاني قول ذلك، أشعر أنني -وبطريقة ما صرت في منفاي الجديد”.