كنيسة الفقراء ولاهوت الحرية
(1)
عندما يحل الظلام ليس لرجل الدين أن يصمت، لا يمكن له أن يتقدم الناس في الصلاة وفي الخطر يلوذ بالفرار، ليس له أن يغض بصره عن ظلم العباد، أن ينافق الحاكم ليضمن لقمة عيشه وسلامة عنقه، وهذا ما لم يفعله أبدًا الأب “إنريك إنجيليلي”.
(2)
ولد صاحبنا لعائلة مهاجرين إيطاليين في قرطبة بإسبانيا عام 1923، فلما بلغ الخامسة عشرة دخل مدرسة السيدة “لوريتو” الدينية، ثم لاحقا أرسل إلى روما لإكمال دراسته، وفي التاسع من أكتوبر لعام 1949، وبعد أن أنهى دراسته اللاهوتية يتم تعينه كاهنًا من قبل الكنيسة الكاثوليكية ليبدأ حياته الكهنوتية.
يعود إلى قرطبة الإسبانية، ويعمل في أبرشية، لكنه ينحاز للفقراء، فيؤسس حركات شبابية لدعمهم ومساعدتهم، ويركز نشاطه على الأحياء الفقيرة في المدينة.
يعينه البابا يوحنا الثالث والعشرون أسقفًا مساعدًا لأبرشية قرطبة في الثاني عشر من الشهر الأخير من عام 1960، لا يغريه المنصب، ولا يحول دون دخوله في نزاعات نقابية، أو يردعه عن الحديث مع قساوسة آخرين حول تجديد خطاب الكنيسة بطريقة تخدم الفقراء والضعفاء.
(3)
في عام 1965 يجد نفسه متحمسا لأفكار لاهوت التحرير التي ظهرت في أمريكا اللاتينية، والتي دعت إلى وجوب أن تنحاز الكنيسة إلى قضايا العدالة الاقتصادية، وحقوق الإنسان، وعدالة توزيع الثروة، ومكافحة الفقر.
والنتيجة بالطبع أن يوقع عليه العقاب مباشرة، فيعفى من واجباته الكنسية، ويُنْقَل إلى دير في العاصمة الإسبانية مدريد.
لا يثنيه العقاب عن أن يواصل محاولاته لتجديد خطاب الكنيسة، يشارك في الدورات الأولى والثالثة والرابعة لمجلس الفاتيكان الثاني أعوام 1962 و1964 و1965، وفي عام 1968 واستكمالا لنشاطه الداعم للفقراء والدور الاجتماعي للكنيسة يشارك في اجتماعات لحركة الكهنة من أجل العالم الثالث، فيصله قرار بنقله إلى الأرجنتين.
في هذا الزمان كانت تدور في أمريكا اللاتينية – وخصوصًا الأرجنتين – عدة معارك في آن واحد، معارك من أجل الديمقراطية، ومعارك الكهنة المتعاطفين مع الفقراء، ومعارك لتجديد حقيقي للخطاب الكنسي، لذا كانت الأرجنتين هي المكان المناسب لكاهن مثل “أنجيللي”.
يباشر عمله أسقفًا لأبرشية “لاريوخا” في شمال غرب الأرجنتين، غير آبه للخطر الذي بدا أنه محيقٌ به في بلاد لا يعرفها جيدا، وراح يواصل نشاطه في تجميع الفقراء والمطالبة بحقوقهم.
الكاهن المشاغب يشجع عمال المناجم والفلاحين وخدم المنازل على تشكيل نقابات لتدافع عن حقوقهم ضد استغلال الدولة وأصحاب العمل، يؤسس عددًا من التعاونيات للعاملين في الحياكة والخبز وإصلاح الساعات وتصنيع الطوب، يؤيد مطالبة الفلاحين بالأراضي البور والعمل بها، يدعم مطالبهم باستعادة عقارات وأملاك اغتصبها أصحابها عن طريق التلاعب باستغلال مديونيات الفقراء.
يأمل في توظيف علاقته الطيبة مع “كارلوس منعم” الذي كان حينها حاكمًا لإقليم “لاروخيا”، والذي وعده بتسليم العقارات المنهوبة من الفقراء إلى التعاونية.
(4)
في الثالث عشر من الشهر السادس لعام 1973، يذهب “أنجيليلي” إلى بلدة “أنيلاكو” الأرجنتينية لترؤس قداس، يستقبله حشد من التجار وملاك الأراضي والعصابات التابعة لهم، ومن بينهم أمادو منعم، شقيق حاكم الإقليم، يحاولون الاعتداء عليه لتخويفه وردعه عن خطط مساعدة الفقراء أمام أصحاب الأملاك.
يقتحم الحشد الكنيسة بالقوة، يمطرونه بالحجارة، ولكن يتم إنقاذه، غير أن “كارلوس منعم” حاكم الإقليم وفي محاولة لتهدئة الجموع وإرضاء أخيه في الوقت ذاته يسحب دعمه للجمعيات التعاونية متذرعًا بأنها ستؤدي إلى اضطرابات اجتماعية.
يندد “أنجيليلي” بالقرار ويلغي الاحتفالات الدينية في الأبرشية، ويعلن حظرا مؤقتا من دخول الكنيسة لزعماء تلك الحشود من ملاك الأراضي ورجالهم.
يبادر هؤلاء بإرسال شكوى للكنيسة الأم يطالبون فيها بعزله، فيرسل الفاتيكان لجنة تحقيق برئاسة الكاهن “بيدرو أروبي” الذي تعاطف معه، والكاهن “فنسينت زازبيه” الذي احتفظ بحياد ظاهر.
تتفاقم الأمور، فيعرض “أنجيليلي” استقالته على البابا، ويطلب منه إما أن يدعمه أو أن يقبل استقالته.
يبادر أصحاب الأراضي بتشكيل ميليشيا عسكرية تقوم باستعراضات قوة داخل البلدة لإرهاب التعاونيات وكاهنها، فيتعاطف كهنة الأبرشية كلهم معه، يجتمعون بالكاهن “زازبيه” المرسل من البابا، ويخبرونه أن “الأقوياء استغلوا الدين للحفاظ على وضع غير عادل وظالم للشعب” وللاستفادة من “قوة العمل الرخيصة منخفضة الأجر”، يختتم “زازبيه” تحقيقه بمشاركة القداس مع “أنجيليلي” للتعبير عن دعمه الكامل لعمله الرعوي والديني.
(5)
تحل السبعينيات، وتشهد الأرجنتين ما عرف بالحرب القذرة خلال رئاسة “إيزابيل دي بيرون”، اعتقالات وتعذيب وتصفيات ميدانية أو في السجون لمعارضين يساريين ونقابيين ونشطاء حقوقيين ودعاة الديمقراطية، أو حتى رجال الدين المنحازين للفقراء الذين تصنفهم الحكومة كمناوئين يساريين.
يطيح انقلاب عسكري بإيزابيل بيرون وبجميع حكام الأقاليم، لكن رجلنا لا يهدأ، ويتقدم بالتماس إلى الحاكم العسكري الجديد في “لاريوخا” الجنرال “أوزفالدو باتاغليا”، طالبا الحصول على معلومات حول مكان قس ونشطاء تم اعتقالهم.
لا يتلقى أي رد، فيسافر إلى قرطبة الأرجنتينية للتحدث إلى قائد الفيلق الثالث في ذلك الوقت، وهو واحد من أكثر جنرالات الأرجنتين دموية وانتهاكًا لحقوق الإنسان، ويدعى “لوسيانو مينينديز”، فيوجه للأب تهديدًا في هذا اللقاء القصير غير الودي، ويدرك صاحبنا أن الخطر قد اقترب منه كثيرا.
(6)
في الشهر الثامن من عام 1976 يُقتل كاهنان من الداعمين للفقراء في ظروف غامضة ببلدة “الخميكال”، يذهب “أنجيليلي” والأب “أرتورو بينتو” لصلاة القداس على أرواح الكاهنين المغدورين.
في طريق العودة تتعقبهما سيارتان، يتوتران قليلا، يقرران الاستمرار في طريقهما، يحاصرهما المهاجمون، يرغمونهما على إيقاف السيارة والخروج منها، ينهالون عليهما بالضرب المبرح، حتى فقدا الوعي.
حتى اللحظة كان كل ما يجري متوقَّعًا، إلى أن أفاق الأب “بينتو” لتذهله المفاجأة، الأب “أنجيليلي” ملقى بجانبه على قارعة الطريق، لكنه ميت، وقد هرب المهاجمون، يتحسسه، فيجد على رقبته إصابات خطيرة.
تحرر الشرطة التي هي في زمن الحكم العسكري محضرا تفيد فيه أن بينتو كان يقود سيارته حين فقد السيطرة عليها، فانقلبت ومات أنجيليلي، ولاحقا أيد القاضي “رودولفو فيجو” ما جاء في محضر الشرطة، وبعد أيام قليلة أوصت المدعية العامة “مارثا جوزمان لوزا” بإغلاق القضية، واصفة إياها بأنها “حادث مروري”.