فوكوشيما 50
(1)
أن تبلغ السبعين من العمر لا يعني أنَّ حياتك قد توقَّفت، وأنَّ نشاطك الذهني قد تجمَّد، وأنَّك مُعْفًى من أداء واجبك الوطني في وقت تمر فيه بلادك بزمن عصيب، وإذا كنت تشك في كلامي فاسأل “ياستيل يامادا”، ذاك الياباني المتقاعد.. وإليك الحكاية من البداية.
(2)
في الحادي عشر من الشهر الثالث من عام 2011، يضرب زلزال بقوة 9 ريختر اليابان، لا بأس فالخطر بعيد عن “مفاعلات دايشي” في “فوكوشيما”، وقد توقفت بالفعل المفاعلات عن العمل كما هو مقرَّر في تصميمها الأمني، لتفادي أي أضرار ناجمة عند وقوع زلزال.
ينقطع التيار الكهربائي الذي يغذي محطة ضخ مياه التبريد، تبدأ مضخات الديزل الاحتياطية في العمل، يطمئن المسؤولون أنَّ الأمور تحت السيطرة.
تمضي ساعة بعد وقوع الزلزال، وفي مشهد جدير بأحد أفلام نهاية العالم على الطراز الأمريكي تضرب موجات تسونامي سواحل اليابان بكلِّ قوة، موجات يصل ارتفاعها أحيانا إلى خمسة عشر مترًا، تكتسح المياه مضخات الديزل الاحتياطية، تجرف خزانات الوقود التي تغذيها.
تنهار أنظمة التبريد، يستمر الوقود النووي الساخن في إنتاج كميات هائلة من الطاقة الحرارية في بعض المفاعلات، يزيد الضغط داخل الأوعية الواقية للمفاعلات بدرجة خطيرة.
إنها بداية سلسلة قاتمة من الأحداث التي أدَّت في النهاية لأسوأ كارثة نووية منذ حادث تشرنوبيل.
(3)
ينغمس 800 عامل فني في محاولة إعادة الاستقرار للمفاعلات، ربما غير مدركين أن أضرار تسونامي ستكون أخطر مما يعتقدون، ففي اليوم التالي، ونتيجة لاختلاط كميات كبيرة من الهيدروجين الساخن بالهواء؛ ينفجر الغلاف الخارجي لأحد المفاعلات، ويُصاب خمسة عمَّال في انفجار الوحدة الأولى.
ثم يصاب أحد عشر عاملًا آخرون في انفجار الوحدة الثالثة يوم 14 مارس، أما الانفجار التالي الذي وقع في الوحدة الرابعة صباح اليوم التالي فلم يتسبب في وقوع إصابات، ولكنه أدى إلى تناثر حطام خرساني مشعٍّ حول المباني، مما جعل ظروف العمل في الموقع أكثر صعوبة.
تزداد المخاطر، تقرر شركة كهرباء طوكيو (تيبكو) التي تدير المفاعلات سحب حوالي 750 عاملًا من غير الأساسيين، ويستمر في موقع الحادث خمسون عاملًا فقط.
وفي ذلك اليوم ولد مصطلح “فوكوشيما 50” للإشارة للعمَّال الخمسين الذين استمروا في محاولات إعادة الاستقرار للمفاعل في ظل ظروف مُروِّعة.
يصف المدير العام لوكالة الطاقة الذرية الحالة في تقريره عن الحادث فيما بعد، فيقول: “شاهدت بنفسي التأثير القوي والمدمر الذي خلفه التسونامي، ولقد كانت هذه التجربة بالنسبة لي صادمة ومؤلمة، ولكنني تأثرت أيما تأثر بما أبداه أولئك العمال والمديرون من شجاعة وتفانٍ، إذ إنهم لم يبرحوا مواقعهم بعد أن ضرب التسونامي، وكافحوا في ظل ظروف مروِّعة من أجل استعادة السيطرة على المفاعلات المتضررة، لقد كان عليهم استنباط وسائل تصدٍّ مرتجلة في ظل ظروف لم يتلقَّوا تدريبًا بشأنها، تنقصهم في أغلب الأحيان المعدات المناسبة، وهم جديرون باحترامنا وإعجابنا”.
(4)
تصف وسائل الإعلام وقتها كيف تبادل هؤلاء العمال النوم في مناوبات على أرضيَّة مبنى لا يتجاوز حجمه مساحة غرفة معيشة متوسطة، وكانوا يتناولون وجبتين فقط في النهار من المعلبات.
يبدو الأمر كأنه ملحمة وطنية، يجتمع المئات من العمال المتطوعين من أنحاء اليابان ورجال الإطفاء وموظفي شركة “تيبكو” على بعد عشرين كيلومترًا من الموقع، يتناقشون ويدرسون أفضل السبل لتحقيق الاستقرار في المفاعلات، ويعلنون أنهم رهن إشارة مجموعة “فوكوشيما 50”.
أما رجال الدفاع المدني من الطيَّارين الذين تحلق مروحيَّاتهم ويقومون باستخدام مدافع المياه لتبريد قضبان الوقود في المحطة، فلم يسمح لهم بالاستمرار في مهمتهم لأكثر من أربعين دقيقة في المرة الواحدة، في محاولة لتقييد تعرضهم للإشعاع.
بحلول يوم 18 مارس ترتفع عدد الإصابات بين العمَّال إلى 20 إصابة، لكن هذا لم يمنع استمرار المتطوِّعين في التدفُّق رغم أنباء الإصابات وخطورة الوضع، فينضم موظفو محطة “كاشيوازاكي-كاريوا” للطاقة النووية ومن بعدهم العاملون في تركيب خط الطاقة الجديد إلى محاولات تحقيق الاستقرار في المفاعلات، كما ترسل شركة توشيبا فريقًا من مائة رجل، وتقوم شركة هيتاشي بإرسال مائة وعشرين رجلًا إلى الموقع.
وعلى الرغم من تزايد عدد العمال وقتها، ظلت وسائل الإعلام تستخدم تعبير “فوكوشيما 50” للإشارة إلى مجموعة العمال الذين تطوَّعوا بتفانٍ وإيثار نادر لاحتواء كارثة نووية مروِّعة وصلت آثارها حتى سواحل الولايات المتَّحدة الأميركية.
(5)
في ذلك الوقت يجلس المهندس المتقاعد “ياستيل يامادا” في منزله يتابع ما يبثه التلفاز من مشاهد المتطوعين الشباب وهم يكافحون للسيطرة على الأضرار التي سببها التسرب الإشعاعي.
تنهشه الغَيْرة، يرغب في أن يقفز من مكان المشاهد إلى مكان الفاعل، تراوده فكرة: لماذا لا يقوم باستقطاب المهندسين المتقاعدين الأكبر سنًّا مثله لمحاولة السيطرة على المفاعل؟
بدت الفكرة له منطقية، فهؤلاء المتقاعدون يمتلكون الخبرة اللازمة لهذه المهمة، كما أن أعمارهم المتقدمة تجعلهم أقل عرضة لمخاطر السرطان والأمراض الأخرى التي تتطور ببطء وتحتاج زمنًا للتأثير لدى التعرض للإشعاع، يقول لنفسه في كل الأحوال لقد استفدت وأبناء جيلي من الكهرباء التي وفرتها المفاعلات النووية، وحان الوقت لرد الجميل.
يبدأ “يامادا” وبمعاونة صديق طفولته “نوبوهيرو شيوتاني”، وهو مهندس متقاعد كذلك، في إرسال الخطابات ورسائل البريد الإلكتروني والكتابة على المدونات لدعوة الناس الذين تجاوزوا الستين من العمر للتطوع لهذه المهمة.
في غضون أيام يجمع الرجلان ما يقارب من ستين ألف دولار وأربعمائة متطوع، منهم عمَّال سابقون في محطة توليد الكهرباء، وخبراء في تصميم المصانع، ومغنٍّ، وطاهيان.
وسائل الإعلام تعتبرها مهمة انتحارية وعملًا بطوليًّا، و “يامادا” يرد: “إنها مسألة حسابات منطقية لا أكثر، أنا أبلغ من العمر ثلاثة وسبعين عامًا، لن أعيش لثلاثين عامًا أخرى، ومن المرجَّح أن أموت لأسباب أخرى”.
تحتفي وسائل الإعلام بالمبادرة، وتشبههم الصحف الغربية بالكاميكازي، هؤلاء الذين يفضلون الموت على الاستسلام، لكن ثَمَّة مفاجأة لم تكن في الحسبان.
(6)
يقوم “يامادا” بتقديم خطته إلى الحكومة اليابانية، يأتي رد فعل رئيس الوزراء مباغتًا: “إن العمل في “فوكوشيما” مهمة جادة ولا تتطلب فرقة انتحارية”. ويرفض المبادرة.
تحت الضغوط الإعلامية، تضطر الحكومة للإعراب عن تقديرها لمبادرة فريق “يامادا”، وتطلب من شركة كهرباء طوكيو (تيبكو) النظر فيها، ومع ذلك ترد الشركة موضحة أنه ليس لديها أي مكان لمزيد من العمال.
“يامادا” لا يستسلم، يواصل محاولاته لخدمة وطنه، هذا الرجل السبعيني يدرك أن ما لا يُدرك كله لا يُترك جُلُّه، ينطلق في 2012 في جولة بالولايات المتحدة للحصول على مزيد من الدعم وإقناع الحكومة اليابانية بالسماح للعمال الأكبر سنًّا بالمساعدة في تنظيف “فوكوشيما دايتشي”، تنجح جولاته في لفت الأنظار إلى مبادرته، ويحوز على اهتمام وسائل الإعلام، وتترجم مدونته حول جهود المجموعة إلى ١٢ لغة.
لم تستجب الحكومة اليابانية لإلحاحه، لكن مبادرته كسبت قلوب اليابانيين وأثارت نقاشًا مجتمعيًّا حول التطوُّع ودور كبار السنِّ.
توفي يامادا عام 2014 بعد إصابته بمرض السرطان في وقت أبكر مما كان يتصور، وما زالت الشركة التي أسسها تقدم خدماتها للمجتمع، وإن لم يحظ أفرادها بفرصة المشاركة في تنظيف الفوضى التي سببها المفاعل بأنفسهم كما كانوا يحلمون، إلا أنَّهم قدموا مثالًا رائعًا وعمليًّا في حبِّ الوطن، الحبُّ الذي لا يشيخ