أن تنجو من الموت مرتين
كان ذلك ليلة عيد الميلاد عام 1971، عندما كانت شابة صغيرة تدعى جوليان تنتظر مع والدتها طائرة تقلهما إلى محمية بانغوانا في غابات الأمازون المطيرة، فهناك يعمل والدها باحثًا أول في المحطة البحثية بالمحمية.
فتاتنا تبلغ من العمر 14 عامًا، أسس والدها تلك المحمية، وعاشت بها فترةً مع والديها المتخصصين في علوم الحيوانات، وتعلَّمت منهما كيفية التأقلم مع الغابات والأدغال.
حينها لم تكن تعلم أن الدروس التي كانت تسمعها منهما عن الحياة في الأدغال سوف تنقذ حياتها في يوم قريب، قبل أن تضطر إلى مغادرة المحمية لتلتحق بالمدرسة الثانوية الألمانيَّة بعاصمة بيرو “ليما”.
تخرَّجت جوليان في المدرسة الثانوية قبل عيد الميلاد بيومين فقط، وقد أجَّلت سفرها إلى والدها لتشارك في حفل تخرُّجها.
بلغ الملل مداه بعد أن تأخر وصول الطائرة التي ستُقلُّها مع والدتها 7 ساعات كاملة، لقد نصحهما والدها بتجنُّب الحجز على شركة طيران “لانسا” لسمعتها السيئة، سواء في مواعيدها أو في مستوى الأمان والصيانة لطائراتها.
لكن لم يكن هناك أي حل آخر، فلم يكن ثَمَّة أماكن على الرحلات الأخرى، ولم يتبقَّ غير هذه الرحلة.
على كل حال، لا بأس، لقد وصلت الطائرة، وها هي تستعد للإقلاع، ولن يستغرق الأمر أكثر من ساعة فقط حتى تصل إلى والدها، لكن الرياح تأتي بما لا تشتهي “الطائرة”!
تتذكر جوليان ما جرى وتقول:
“فجأة دخلنا في سحابة كثيفة مظلمة، كانت والدتي قلقة، ولكني كنت بخير، فلطالما أحببت الطيران، بعد 10 دقائق كان من الواضح أن شيئًا ما سيقع، شعرت بمطبات هوائية شديدة، وكانت الطائرة تقفز لأعلى ولأسفل، والأمتعة تتساقط من رفوف الطائرة، هدايا وزهور وكعكات عيد الميلاد تتطاير حول المقصورة، رأيت البرق حول الطائرة، أصابني الهلع، أمسكت أمي بيدي، لكننا لم نتمكن من الكلام، بدأ الركاب الآخرون في البكاء والصراخ، بعد حوالي 10 دقائق، رأيت ضوءًا ساطعًا للغاية ينبعث من المحرك الخارجي، قالت والدتي بهدوء شديد: هذه هي النهاية، لقد انتهى كل شيء. وكانت هذه الكلمات آخر ما سمعته منها”.
لقد أشعلت ضربة البرق محرك الطائرة، وأدَّت إلى اختلال توازنها، وها هي تسقط رأسيًّا سقوطًا مرعبًا، حتى إنه سُجِّل في موسوعة غينيس على أنه أعلى حصيلة للقتلى ناجمة عن صاعقة قاتلة “أودت بحياة 91 شخصًا، ماتوا جميعًا عندما تعرضت شركة الطيران البيروفية – لانسا (LANSA)- الرحلة رقم 508 للصعق وتحطمت في غابات الأمازون المطيرة في 24 ديسمبر/كانون الأول 1971”.
تتابع جوليان حكايتها:
“حل الظلام الدامس ولا شيء إلا صوت صرخات الناس، ثم تلاشى صوت الصرخات، لكن هدير المحركات ما زال يملأ رأسي، إلى أن توقف فجأة، ووجدت نفسي خارج الطائرة، مربوطة بمقعدي، الذي كان ما يزال مرتبطًا بدوره بصف المقاعد المجاورة له، وقتها كان همس الريح هو الضجيج الوحيد الذي بتُّ أسمعه، شعرت أني وحيدة تمامًا، واختفى من حولي الجميع، كان بإمكاني رؤية غطاء الأدغال الكثيف كما لو كان يدور من حولي، ثم فقدت الوعي، ولم أتذكر شيئًا بعدها، وقد علمتُ لاحقًا أن الطائرة تحطَّمت على بُعد ميلين فوق الأرض”.
لقد سقطت الفتاة على الأرض، ونجت بسبب كثافة الأشجار وارتباطها بصف المقاعد، لكنها أصيبت بكسر في الترقوة، وجرح في ساقها اليسرى وذراعها الأيمن، وتورمت عينها اليمنى.
ظلت جوليان فاقدة الوعي حوالي 20 ساعة وحين أفاقت ونظرت إلى ساعة يدها التي تشير إلى التاسعة صباحًا أدركت المعجزة، لقد نجت من حادث تحطم طائرة.
ظلت الفتاة تنادي على والدتها بين مقاعد الطائرة المتناثرة، لكنَّها لم تسمع إلا رجع صوتها في الغابة، كانت تتحرك بصعوبة وألم شديدين نظرًا لجروحها، لكن لم يكن لها اختيار إلا أن تحاول أن تقاوم، أحيانا تكون أعظم مقاومة يمكن أن يقوم بها المرء هي أن يبقى حيًّا، وعلى هذه الحال بقيت مكانها مدة يوم ونصف يوم.
بدأت الفتاة تستعيد الدروس التي تعلمتها من والديها حين أمضت عامًا ونصف العام معهما في محطة أبحاثهما في غابات الأمازون المطيرة، وقد أخبراها أنَّ الغابة يمكن أن تكون أيضًا صديقًا إذا ما عرفنا لغتها.
كانت تنتابها مشاعر متناقضة من الفرح والحزن في آن واحد، إنها تسمع أزيز الطائرات التي خرجت تبحث عن طائرتها المفقودة، لكن كثافة الأشجار تحول دون اكتشاف أمرها، ويبدو أن محاولات الإنقاذ قد يئست تمامًا بعد عدة أيام، وتوقف أزيز الطائرات.
كانت جوليان ترتدي فستانًا قصيرًا بلا أكمام، وحذاءً مفتوحًا أبيض، فقدت إحدى نعليها، لكنها احتفظت بالأخرى، لكي تختبر الأرض أمامها نظرا لقصر نظرها وفقدانها لنظَّارتها.
كانت تعلم أن الأرض قد تكون مليئة بالثعابين التي تُغَيِّر لونها لخداع الضحايا، فكانت فردة نعلها إحدى أدواتها لمحاولة النجاة، بحثت في موقع الحطام، فوجدت “شنطة” بها حلوى عيد الميلاد، فكانت زادها الوحيد في رحلة البقاء، تأكل منها قطعتين فقط طَوال اليوم.
مشت بجوار جدول صغير من المياه، لأنها تعلمت أنَّ السير في اتجاه التيار سيقودها حتما إلى النهر الأكبر وأماكن مأهولة بالناس، غير أن الأجواء رطبة وحارة ومطيرة طوال النهار، وباردة في الليل، يسيطر عليها شعور بالرهبة والخوف خصوصًا في الليل وهي وحيدة في الأدغال.
في اليوم الرابع، أصابها الرعب حين سمعت صوت أسراب من طائر العقاب، فقد تعلمت من والدتها أن هذا الطائر يتجمع بكميات كبيرة حول الموتى والجرحى الذين هم بلا حراك، حتما لقد جاء من أجل التهام جثث ركاب الطائرة.
فكرت أنَّ والدتها ربما تكون جريحة وغير قادرة على الحركة وتموت بهذه الطريقة، استمرَّت في السير بمحاذاة جدول الماء حتى وجدت 3 مقاعد عليها جثث 3 ركاب كانت من بينهم امرأة، فظنت أنها والدتها.
تجمدت من الرعب، فقد كانت أول مرة في حياتها ترى جثثًا بشرية، اقتربت على حذر، فإذا بالمرأة وجهها إلى الأرض لكنها وجدت طلاء أظافر في أصابع المرأة، فتنفست الصعداء، فأمها ماريا لم تكن تضع طلاء أظافر على الإطلاق.
سارت جوليان على طول الغدير في اتجاه التيار، كانت تسير في منتصف الغدير حتى تتجنب أسماك البيرانا والثعابين السامة، وقد علمت من والديها أن المشي في الماء أكثر أمنًا من المشي على الأرض في الأدغال.
كانت ترى التماسيح على الشط وبعضها يتحرك في اتجاهها، تذكرت نصيحة أخرى لوالديها، التماسيح لا تهاجم البشر في الغالب إلا في حالات نادرة، البشر ليسوا طعامها المفضل.
قادها الغدير إلى نهر أكبر، لسوء الحظ كان الجرح في ذراعها يزداد سوءًا، وقد أصبح ملوثًا ومتورمًا، وظهرت فيه ديدان صغيرة، أصابها الرعب حين رأت الديدان في جرحها، فقد تلوثت لدرجة جعلتها تظن أنها حتى وإن نجت فربَّما تُبتر ذراعها.
في اليوم العاشر من سيرها، وجدت قاربًا، فلم تُصَدِّق عينيها، ظنت أن الجرح في ذراعها قد تلوث لدرجة أثر على عقلها حتى أصبحت ترى الأشياء التي تتمناها، اقتربت أكثر حتى لمست القارب بنفسها ووجدته حقيقيًّا، يبدو أن بعض الصيادين على قرب من المكان.
لمحت بالقرب من القارب طريقًا صغيرًا قد يؤدي بها إلى أكواخ الصيادين، لكنها لم تكن قادرة على السير أكثر من ذلك، فزحفت حتى وجدت كوخًا بسقف من سعف النخيل ومحركًا للقارب ولترًا من الجازولين.
كان الجرح قد امتلأ أكثر باليرقات، تذكرت أن كلبهم قد أصيب بديدان مشابهة، وكان والدها يضع الكيروسين في الجرح، لذا قامت بوضع الجازولين على الجرح. كان الألم شديدًا، فقررت أن تبقى هناك حتى الصباح.
وها هي تكاد تسمع أصوات القرويين وهي تحاول الاستيقاظ، لقد كان -كما تقول- أشبه بسماع صوت الملائكة، حينما رأوها في ثيابها الرثة وملامحها الألمانية التي لا تشبه السكان الأصليين، ظنوا أنها جنية النهر، لكنها شرحت لهم ما حدث، فعالجوا جرحها، وأطعموها، وعادوا بها إلى المناطق المأهولة في اليوم التالي.
ما لبثت السلطات أن أبلغت “هانز كوبكه” بأنها قد عثرت على ابنته، كان اللقاء عجيبًا، لم ينبس هانز بكلمة لفترة، وظل يعانقها دون كلام، بعدها حاول بمساعدة ابنته العثور على الأم، فربما تكون على قيد الحياة هي الأخرى.
ساعدت جوليان السلطات في تحديد موقع الطائرة. لكن للأسف وفي يوم 12 يناير/كانون الثاني 1971، أي بعد الحادث بـ14 يوما وجدوا جثمان ماريا كوبكه، ومما ضاعف الحزن أنها كانت أيضا على قيد الحياة فترة من الزمن بعد الارتطام، شأنها شأن ركاب آخرين كانوا على قيد الحياة حين سقطت الطائرة، وكان يمكن إنقاذهم لولا تأخُّر وصول فرق البحث التي لم تستطع الوصول إلى موقع الطائرة بسرعة نظرا لكثافة الأدغال واتساعها، فماتوا متأثرين بجراحهم.
نجت جوليان من حادث الطائرة وما زالت تعيش إلى اليوم في ميونخ بألمانيا حيث تعمل في معهد علوم الحيوانات، ممتنة للدروس التي تعلمتها من والديها والتي كانت سببا في إنقاذ حياتها.