الرجل الذي حاكم ديكتاتوره
(1)
سليمان غونغونغ، يعمل محاسبًا في إحدى المؤسسات بالعاصمة التشادية نجامينا، مواطن بسيط، لا شأن له بالسياسة، تُلقي الشرطة القبض عليه صبيحة أحد أيام أغسطس / آب لعام 1988، بتهمة المشاركة في أنشطة سياسيَّة غير قانونيَّة، في زنزانته يرفع رأسه يومًا إلى السماء ليُقْسِم على النضال من أجل العدالة إن خرج حيًّا، بعد عامين ونصف يخرج بالفعل حيًّا.
(2)
حسين حبري، رجل نحيف، طويل القامة، يكاد وجهه الصارم أن يعلن صراحة أنه أحد أعتى مستبدي إفريقيا، يقضي في حكم تشاد ثمانية أعوام، فترة ليست طويلة إذا ما قورنت بما يقضيه في الحكم مستبدون آخرون، لكن سنوات حكمه تُعَدُّ سنواتٍ من الجحيم، فيها يُعْدَم أربعون ألف مواطن، ويتعرَّض للتعذيب مائتا ألف آخرون، وتشهد البلاد ترهيبًا وقمعًا وفسادًا غير مسبوق، إلى أن يهرب الرئيس الديكتاتور إلى السنغال، إثر هزيمة عسكرية على يد معارضيه، يحمل معه ثروته التي اختلف حول تقدير كم مليونًا من الدولارات هي؟ وهناك في السنغال يعيش هادئًا لخمسة وعشرين عامًا قبل أن يحل موعد القصاص.
(3)
سليمان غونغونغ لا يملك ما يمكن أن يُحارب به ديكتاتوره السابق، لكنه قرَّر أن يفي بوعده، وأن يحارب من أجل العدالة، يعمل على تجميع شهادات الناجين وأقارب الذين قُتلوا بأمر من حبري، يتمكن بالفعل من تسجيل حوالي سبعمائة شهادة تشرح بالتفصيل ماذا جرى لأصحابها.
يصل خبره إلى أعضاء سابقين في نظام حبري، ممَّن استمرُّوا في مناصبهم بعد فرار الديكتاتور المخلوع، يهددونه بالقتل، فيقوم بإخفاء الوثائق، يصيبه هو وآخرين ممن قرروا ملاحقة الديكتاتور الهارب بعض اليأس.
سرعان ما يبدده خبر القبض على ديكتاتور تشيلي السابق أوغستو بينوشيه في بريطانيا في أكتوبر/تشرين الأول عام 1998، وذلك بناءً على مبدأ سلطة القضاء العالمية التي تتيح عرض القضايا التي تنطوي على أعمال تعذيب وإبادة جماعية وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية دون النظر إلى المكان الذي تم ارتكاب الجريمة فيه، أو جنسية مرتكبي تلك الجرائم أو جنسيات ضحاياهم.
(4)
في عام 1999 يطرق محاميان شابَّان باب منزل غونغونغ، باعتباره أحد الناجين من سجون نظام حبري، يخبراه أنهما ومؤسسات حقوقية أخرى يعملون على جمع شهادات الضحايا لبدء اتخاذ إجراءات قانونية ضد حبري، يستقبلهم الرجل مبتسمًا، حان أخيرًا اليوم الذي طالما انتظره.
يدلهما على الجزء الخلفي من منزله، حيث أخفى حوالي ثمانمائة شهادة لضحايا الديكتاور المخلوع، يقومون جميعا بنسخها خلسة، ومن ثَمَّ تهريبها إلى الولايات المتحدة.
وفي يناير/كانون الثاني عام 2000 يتقدم سليمان وزملاؤه من الرابطة التشادية لضحايا الجرائم والقمع السياسي بشكوى ضد حبري في السنغال التي تؤيه.
وفي الشهر التالي يوجه القاضي السنغالي ديمبا كانجي، اتهامًا رسميًّا إلى حبري بالتعذيب وارتكاب جرائم ضد الإنسانية ويضعه قيد الإقامة الجبرية.
يفرح الضحايا، إلى أن يقرر الرئيس السنغالي الجديد عبد الله واد، نقل القاضي كانجي إلى مكان آخر واستبعاده من التحقيق في ملف الديكتاتور حبري، لتقرر لاحقًا محكمة الاستئناف رفض لائحة الاتهام الموجهة ضد حبري، وتحكم بأنَّ المحاكم السنغالية ليس لها اختصاص للنظر في القضية؛ لأن الجرائم لم تُرْتكَب في السنغال.
يصيب الإحباط الضحايا، لكنهم لا ييأسون، تقرر الرابطة التشادية استئناف الحكم أمام محكمة النقض، وهي أعلى محكمة في السنغال، لكن المحكمة للأسف تُسْقِط القضية ضد حبري، لكن الضحايا عازمون على المضي في طريقهم، فيتقدم 17 منهم في تشاد نفسها بشكاوى جنائية بشأن التعذيب والقتل والاختفاء ضد شرطة حبري.
(5)
يحل شهر مايو / آيَّار لعام 2001، ويحمل معه خبرًا سعيدًا، لقد اكتشفت منظمة هيومن رايتس ووتش ملفات لشرطة حبري تضم آلاف الصفحات من ملفات الاستخبارات التي تعرض بالتفصيل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبها النظام.
وبالتوازي مع ذلك يتقدم ضحايا انتقلوا للحياة في بلجيكا بشكاوى جنائية في بروكسل بموجب مبدأ سلطة القضاء العالميَّة ضد الديكتاتور حبري.
وفي العام التالي يزور قاضي بلجيكي وفريقه تشاد للتحقيق في القضية، يستمر التحقيق لأربع سنوات، تنتهي بإصدار مذكرة توقيف دولية بحق حبري بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وتعذيب وانتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي، وتقدم بلجيكا طلبًا إلى السنغال بتسليم حبري.
لكن السنغال تصر على رفض الطلب الدولي لترحيله، أو حتى لمحاكمته في السنغال نفسها، تمر سبع سنوات لتطالب بلجيكا محكمة العدل الدوليَّة بإجبار السنغال على محاكمة حبري أو تسليمه، تمضي ثلاث سنوات أخرى وتحكم المحكمة لصالح بلجيكا.
لكن هذه ليست نهاية القصة، حيث اتضح أن العثور على محكمة لمحاكمة رئيس دولة أمر صعب.
في إصرار عجيب وعزيمة مذهلة يذهب الضحايا وذووهم إلى السنغال مرارًا وتكرارًا لعرض قضيتهم على الجمهور والصحافة والسياسيين، إلى أن تأتي اللحظة المناسبة حين أصبح زعيم المعارضة ماكي سال رئيسًا للسنغال في عام 2012.
وبالفعل يتم تمرير قانون جديد في شهر ديسمبر/كانون الأول 2012 يسمح بإنشاء محكمة “الغرف الإفريقية الاستثنائية” في دكار خصيصًا من أجل هذه القضية.
يُعتقل حبري، الذي كان في السبعينيات من عمره آنذاك، وفي 20 يوليو/تموز 2015 يَمْثُل أخيرًا أمام المحكمة، وهي المرة الأولى التي يُحاسب فيها رئيس إفريقي سابق على جرائم مماثلة أمام محكمة في بلد إفريقي آخر.
(6)
الملفت ما ذكره ريد برودي محامي هيومن رايتس ووتش وأحد المكلفين بالقضية : “أعتقد أن أول أمر يجب ملاحظته هو أن مهندسي جهود العدالة لم يكونوا الاتحاد الإفريقي، لم يكن مجلس الأمن، لم يكن المدعي العامُّ في لاهاي، لقد كانوا الضحايا، وتُظهر هذه القضية أكثر من أي شيء آخر أنه بالإصرار والمثابرة يمكن لمجموعة من الناجين والمنظمات غير الحكومية الدولية أن تخلق بالفعل الظروف السياسية لتقديم دكتاتور إلى العدالة، سواء في إفريقيا أو في أي مكان آخر”.
(7)
وأخيرا يأتي اليوم الذي انتظره سليمان غونغونغ، إنه الآن في الستينيات من عمره، وها هو يرتقي منصة الشهود في قاعة المحكمة في السنغال ليتحدث بهدوء وثبات عن معاناته قبل 25 عامًا على يد نظام حسين حبري.
يصف أولئك الذين تعرضوا للتعذيب، والذين اقتيدوا ليلًا، والذين ماتوا من المرض وسوء المعاملة في السجون المروعة التي كانت تديرها شرطة حبري. سعيدًا أنه أبر بقسمه الذي تعهد به قبل ربع قرن يقول للحضور: “من أعماق زنزانتي، من أعماق ذلك الجنون، أقسمت أمام الله أنني إذا خرجت على قيد الحياة، سأقاتل من أجل العدالة”.
تستمر محاكمة حبري 53 يومًا وتضم حوالي 96 شاهدًا في القضية، وفي 30 مايو / أيَّار 2016 يُدان الديكتاتور التشادي بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وتعذيب، بما في ذلك العنف الجنسي والاغتصاب، ويحُكم عليه بالسجن المؤبد، وبغرامة تقدر بحوالي 123 مليون يورو تدفع كتعويض للضحايا.
المستبدون دائما في غرور يعتقدون أنهم أذكى ممن سبقهم، وأنهم سيفلتون من العدالة، وأن أحدًا لن ينال منهم، ينسون أن عزيمة الضحايا وإصرارهم على القصاص قادر على أن يوقع بهم العقوبة التي يستحقونها.
أيها السادة الضحايا، مهما كان ديكتاتوركم، صغيرًا كان أو كبيرًا، ناضلوا لتقديمه إلى العدالة.