الضرير الذي حكى للناس ما رأى
(1)
غريبة هي الحياة، فبقدر ما تُفزعك مصائبُها، بقدر ما يدهشك لُطفها، فتجد نفسك وسط أهوالك مدفوعًا إلى ما لم تفكر فيه يومًا، ولم تُخطِّط له، وما يُخفِّف عنك بلاءك.
(2)
تقوم الثورة الروسية، وبعدها بنحو ثلاثة أعوام يولد في موسكو بطل حكايتنا أنطون فلاديميروفيتش أنطونوف، وتحديدًا في الثالث والعشرين من فبراير/شباط لعام 1920 في أسرة تؤمن بالثورة، وكان ربُّها جزءًا منها.
يبدو ذلك مُطَمْئِنًا في البداية، فانضمام والده الضابط في الجيش إلى حركة ثورية استطاعت تولِّي الحكم يمكن أن يكون درع حماية لتلك الأسرة، لكن الرياح لا تأتي دائمًا بما تشتهي السفن.
والرياح تهب بالفعل في العام 1930، حين يقرر الحاكم السوفيتي ستالين التخلُّص من الوجوه القديمة، التي يعتبرها خطرًا يهدده، فيباشر عملية تطهير دموية داخل الحزب الشيوعي الحاكم للقضاء على من سمَّاهم “البلاشفة القدامى”، ومنهم رفيق الثورة تروتسكي، ووالد أنطون المناصر له.
تصعق المفاجأة والدة أنطون التي بصفتها زوجة لضابط كبير في الجيش السوفيتي تعرف جيدًا مصير من يُعتقلون في سجون ستالين، فتُقْدِم على الانتحار.
(3)
مسكين أنطون، إنه يمر بأسوأ السنوات في حياته، شاب صغير مصاب بضعف شديد في البصر، وبحاجة لمن يعتني به طوال الوقت، يفقد والدته وهو في السادسة عشْرة من عمره، ويُعدم والدُه وهو في الثامنة عشرة، وبعدها بعامين يجد نفسه جزءًا من الحكاية، فقد قرَّر ستالين توسيع دائرة الانتقام، لتشمل ذوي معارضيه من رفاقه، ولو كان أحدهم شابًّا صغيرًا لا يكاد يبصر.
يُلقي رجال الأمن القبض عليه، يوجِّهون له تهمة الإرهاب والتخريب، يُخَيَّر بين أن يقرَّ بأن والده كان بالفعل مجرمًا يستحق الإعدام، أو أن يرفض ويتحمَّل العقوبة، يختار أنطون الحل الثاني، فيصدر حكم بإعدامه، لكن ضعف بصره الحاد يجعل القضيَّة تبدو سخيفة أكثر من اللازم، فيُخفَّف حكم الإعدام إلى السجن.
(4)
يجد صاحبنا الصغير نفسه في سجون موسكو، ومنها سجن بوتريكا المشدَّد، وعليه أن يقضي بها سنوات طوال، تمر الأيام صعبة مؤلمة، يكتشف في نفسه موهبة لم يكن يدرك أنَّه يمتلكها ولا يعرف أنها ستكون رفيقته إلى نهاية العمر، وليصبح بسببها واحدًا مِنْ أهم مَن وثَّقوا تاريخ بلاده.
يقع أنطون في حب القص والسرد، تستهويه الحكايات، ويستهوي بها الآخرين، ويصبح حكَّاء السجن، ينسج القصص والحكايات ويعيدها مرارًا وتكرارًا، يجتمع المسجونون حوله، يحكى لهم ما لديه، يحبونه ويتقربون منه، فحكاياته تُخفِّف عنهم ليالي السجن البغيضة، فلا يتعرض للضرب أو الإيذاء كما كان يحدث للآخرين، لكن – وللسخرية – لا تحميه حكاياته من أن يسرقوه من حينٍ لآخر.
وبقدر ما كانت حكاياته ممتعة للآخرين، بقدر ما كانت ملاذه النفسي ليشعر بالحياة والاستمرار، ففي كل مرة يحكي أنطون حكاية جديدة يحس بأنه تغلَّب على ضعف بصره مرة، وعلى جدران السجن مرة، وعلى الخوف والوحدة مرات ومرات.
يستمر في ذلك طوال سنوات سجنه حتى تصبح الحكاية جزءًا من نفسه لا يتركها ولا يهملها، فكما أنقذته من وحشة السجن وغربته ومن أذى مجرميه؛ أنقذته من احتراق ذكرى أبيه.
تنتهي سنوات سجنه، حان الآن موعد ترحيله إلى معسكر العمل القسري المعروف باسم، “الجولاج” في سيبريا، يجبر على العمل رغم ضعف بصره الشديد، تمرُّ سنوات يفقد فيها بصره نهائيًّا، بسبب برودة الجو والإهمال الطبي، لكن ذاكرته تقوى وهي تكنز الذكريات والشخوص والأحداث.
(5)
يحل العام 1953، يموت ستالين، ويخرج أنطون من معسكرات الجولاج ويصبح حرًّا للمرة الأولى بعد ثلاثة عشرة عامًا قضاها مكبَّلًا بجدران السجن وفقدانه البصر.
يقضى بعض الوقت في روسيا، ثم يتجه إلى جورجيا، ويستقر به المقام هناك، ويقرر بعدها أن يخوض رحلة توثيق لحكاية والده.
يبدأ بالبحث عمَّن يساعده في القراءة والكتابة، ثم يتواصل مع أقاربه الذين يمتلكون معارف في الحزب السوفيتي، لتبدأ عملية التوثيق، يوصلونه بوثائق ومستندات لم يكن لأحدٍ الوصول إليها، وبالطبع موقعه كابنٍ لأحد الأسر البلشفيَّة القديمة كان مُعينًا له على ذلك.
يبدأ أنطون في تسجيل التاريخ كله كما عاشه، وكما شاهده وسجَّله من كانوا جزءًا منه، يصل الأمر أن أحدهم يُوصله إلى بعض المنتوجات التي كان ستالين يصنعها بنفسه في وقت فراغه، ليتحول أنطون مع الوقت من مجرَّد باحث عن تفاصيل حياة والده وتبرئة ساحته، إلى مؤرخ يروي حكاية بلاده خلال سنوات هي الأكثر قسوة في تاريخها.
في العام 1960 ينتهي أنطون من كتابه المهم عصر ستالين “Time of Stalin”، لكن الكتاب وحتى العام 1970 لم يكن مسموحًا بنشره داخل الاتحاد السوفيتي، لكنه ينجح في تهريبه إلى خارج روسيا مع صديقه الجديد القائم بمهام القراءة والكتابة له، والذي كان عضوًا في حركة مضادَّة لستالين.
(6)
في العام 2001 يؤسِّس أنطون متحفًا لضحايا معسكرات الجولاج التي وصل عددهم إلى الملايين، ويصبح أوَّل مدير له، ويحمل المتحف داخله توثيقًا للكثير من الضحايا والقصص، ويصبح الشابُّ الضرير أيقونة توثيق تحكي للروس سنواتٍ من حياتهم وعصرهم الأصعب.