(1)
هل يمكن أن يكون الإنسان بطلا رغم أنفه، بل هل يمكن أن يقوم بدور بطولي بعد وفاته، لطالما حملت الحرب العالمية الثانية حكايات غريبة، لكن لعل حكاية مايكل أغربها.
(2)
يناير/تشرين الثاني من العام 1943، تشتعل الأمور أكثر فأكثر على صعيد الحرب العالمية، النازيون يسيطرون على النطاق الأكبر من أوربا، بريطانيا تخشى من اقتحام هتلر للندن، وترغب في الوقت نفسه في كسر هذه السيطرة من باب خلفي، وترى أن ذلك سيكون متاحًا عبر الحلقة الأسهل وهي إيطاليا، تحديدًا عبر صقلية.
يفكر تشرشل مع المجموعات الاستخباراتية في طريقة لاختراق دفاعات هتلر، واضعًا في حسابه أن المواجهة المباشرة مع النازيين ليست في مصلحة بريطانيا، بعد الخسائر الكبرى التي وقع فيها الحلفاء.
ينعقد الاتفاق على ضرورة تضليل هتلر وإيهامه بأن العملية البريطانية القادمة ستكون في اليونان، بينما تتحرك الجحافل البريطانية إلى وجهتها المنشودة وهي صقلية.
لكن كيف يمكن ذلك؟ “فلنوحِ إلى الألمان بأن هناك معلومات سُربت من القيادة البريطانية مفادها أن القوات البريطانية في طريقها إلى اليونان”، هكذا رأت القيادة البريطانية.
لكن مرة أخرى كيف نرسل تلك الرسالة المضللة إلى الجيش النازي بطريقة ذكية لا تثير الريبة؟
(3)
شارع سانت جيمس بالعاصمة البريطانية لندن، تنعقد اللجنة الاستخباراتية المعروفة باسم “لجنة العشرين” للعمل على وضع خطة للإيحاء إلى هتلر وحكومته أن اللواء الثاني عشر البريطاني سيتحرك مطلع يوليو/تموز 1943 لغزو اليونان بشكل كامل.
الحقيقة أنه لا وجود لما يسمى باللواء الثاني عشر من الأساس، وحتى تصبح المعلومة منطقية ومستساغة للمخابرات والقيادة العسكرية في ألمانيا، يجب أن تتحدث عن تحرك جيش كامل، وألا يكون الأمر مقتصرًا على أنها مجموعة عسكرية، تجنبًا أن يبدو الأمر للألمان بأنه فخ معد مسبقًا.
الأجواء مشحونة داخل اجتماع اللجنة، التي تتفق على تحفيز الخدعة المضللة بعدة وسائل إضافية، مثل تسريبات إذاعية تتضمن الحديث عن الحركة نحو اليونان، وكذلك إجراء تحركات عسكرية مزيَّفة توحي بذلك، بجانب الاتفاق مع مجموعة من المترجمين اليونانيين الذين تتضمن مهمتهم تقديم تسريبات تفيد بأن اليونان متخوفة من التحرك البريطاني ضد اليونان.
لكن الأزمة التي ما زال الجميع واقفًا أمامها: أن كل هذا لا يكفي ليحرك هتلر فيالقه العسكرية من صقلية حتى تتمركز في اليونان وتحميها من عدوان بريطاني محتمل، فصقلية لها من الخطورة والأهمية ما يجعل تخلي هتلر عنها أمرًا صعبًا للغاية، بل يجب أن يستند إلى برهان واضح يجعله هو وجيشه واستخباراته يوقنون بأن التحرك من صقلية باتجاه اليونان هو الخيار الأمثل لهذا الوقت من الحرب.
يفكر أحد أعضاء اللجنة “تشارلز تشولمونديلي” في الاعتماد على خطة ذكرت في مذكرة “التراوت”، وهي مذكرة كتبها مساعد مدير المخابرات البريطانية عام 1939، تتضمن العديد من طرق خداع العدو.
تُطرح على اللجنة الخطة رقم 28 من المذكرة، التي تعرف باسم اللحم المفروم (Mince meat)، وتتضمن إلقاء جثة تحمل خطة مزيفة في البحر بالقرب من شواطئ العدو، لتُلتقط باعتبارها جنديًّا ميتًا.
تدب الخلافات داخل الجلسة، فرئيس اللجنة يرى أن هذا النوع من الخطط ليس ذكيًّا بما يكفي لخداع الألمان، خاصة أنه مستخدم من قبل، ولن ينطلي عليهم، فيما يرى صاحب الاقتراح أن الفكرة يمكن تنفيذها بطريقة ذكية تسمح بنجاحها، خاصة أنها نجحت عدة مرات من قبل.
يضيف صاحب الاقتراح ضرورة أن يبدو الأمر كأن طيارًا سقطت طائرته بالقرب من السواحل الإسبانية، وقع الاختيار على إسبانيا؛ لأنها تمتلك خطًّا ساحليًّا واسعًا، واتخذت إداراتها موقفًا محايدًا، مما جعلها مرتعًا للجواسيس البريطانيين والألمان على حد سواء، وهو ما يسمح للبريطانيين بضبط الأمر ليكتسب صفة الواقعية.
(4)
يبدأ تشارلز في المضي قدمًا في الخطة برفقة أحد أعضاء اللجنة المؤيدين للفكرة وهو “إيوين مونتاجو” الذي أشرف على العملية بالكامل، واستخدم علاقاته للتحرك بشكل أسرع في الخطة.
يبدأ الفريق في البحث عن جثَّة مناسبة تصلح لأن تكون جنديَّ بحرية شابًّا سليم الجسد مات غرقًا، تتوسع عمليات البحث بالفعل في مختلف المشافي وغرف المشارح، وكانت الموافقة المقدمة على العملية باسم تشرشل تمنح مونتاجو الضوء الأخضر للدخول إلى أي مكان.
تعقدت المسألة حينما عجز الفريق عن العثور على جثة مناسبة، حتى تفتق ذهن مونتاجو عن الذهاب إلى أحد الأطباء الشرعيين، وعرض عليه المسألة دون تقديم الكثير من التفاصيل، سوى أن الجثة ستستخدم في عملية عسكرية.
يوافق الطبيب الشرعي على مضض، ويقدم له جثة وصفها بأنها “طازجة”؛ لأن صاحبها توفي حديثًا، وهو “جليندور مايكل”.
وحكاية مايكل هذا غريبة، فقد ولد في جنوب غربي ويلز عام 1909، وتوفي والده وهو في عمر السادسة عشرة، فدخل في حالة نفسية وعقلية غير متزنة، وظل يعيش مع والدته حتى بعد زواج أخواته، إلى أن توفيت في العام 1940، فانتقل بدوره هائما على وجهه نحو لندن، ليظل مشردا في الشوارع دون مأوى أو حياة طبيعية، حتى تباغته الصدفة حينما يتناول قطعة خبز من الشارع مخلوطة بسم فئران، فيصاب بالتسمم وتنتهي حياته.
(5)
يبدأ الفريق في التفكير في منح مايكل المتوفى حياة حقيقية بعد موته، تلك التي لم يعشها، يقرروا إعطاءه اسمًا جديدًا، وهو وليام مارتن ضابط في البحرية البريطانية، وإمعانًا في حبك الأمر كأنه واقعي، يفكرون في منح الأمر ملامح حياة عاطفية أيضًا، ليبدأ البحث عن فتاة في الجيش تتطوع لتقديم صورتها لتوضع مع خطاب عاطفي في جيب الضابط وليام مارتن، كما تبدأ عملية إلباسه زيًّا عسكريًّا وتصويره، وإضافة صورته واسمه وبياناته الجديدة إلى السجلات العسكرية.
يصبح الشغل الشاغل للفريق البريطاني التأكد من توفر كافة المعلومات المنطقية التي سيحتاج الألمان إلى البحث عنها في السجلات حينما يعثروا على الجثة، وتجنب حدوث أي تعارض بين المعلومات، حتى لا تنهار الخطة بالكامل.
تحصل العملية على الموافقة النهائية للبدء في تنفيذها من تشرشل، يقرر الفريق رمي الجثة عند مدينة ويلفا الساحلية الواقعة في الخليج الجنوبي لإسبانيا، وفي الوقت نفسه تبدأ تحركات أخرى بتسريب معلومات عن الهجوم البريطاني المزيف على اليونان عبر جواسيس ألمانٍ موجودين في إسبانيا، دون أن يعرفوا أنهم يحصلون على معلومات مزيفة، بهدف أن تصل المعلومات إلى “أليكسس فون رون”، وهو المستشار المقرب والمفضل لهتلر الذي يستشيره في كل شيء، وقد كان التحدي أن تمر الخدعة على فون رون، وإذا ما اقتنع بها فسيكون تصديق هتلر لها أمرًا محسومًا.
يتفق الفريق على وضع صورة الحبيبة المزيفة في جيب قميصه، بينما توضع تذاكر المطاعم التي يرتادها مع حبيبته في جيب بنطاله، فيما ستوضع حقيبة سوداء مربوطة بحزام وبداخلها رسالة عسكرية تحمل الخدعة المطلوبة، وكذلك رسالة عاطفية من حبيبته تبدي فيها حزنها الشديد على غيابه في الحرب واشتياقها له، ورغبتها في رؤيته قريبًا.
سترمى الجثة عبر غوَّاصة لا طائرة، تلك هي الفكرة النهائية التي توصل الفريق إليها خشية أن يؤدي الإلقاء من طائرة إلى تمزق جسده إربًا إربًا بسبب المسافة وقوة السقوط، وهو ما يضرب صلب العملية بالكامل.
صبيحة الثلاثين من أبريل/نيسان عند خليج قادز بالقرب من مدينة ويلفا يعثر الصياد الشاب “خوزيه أنطونيو دي ماري” على جثة طافية، ملامح وجهها مشوهة بالكامل، ومربوط فيها حقيبة سوداء، يطلب خوزيه من بعض الشباب في القرية مساعدته في حمل الجثة، ويتحرك بها نحو السلطات لتسليمها، وهنا يخرج السهم من القوس.
(6)
للبريطانيين ضابطان عميلان في الجيش الإسباني، داخل الوحدات الموجودة في مكان وصول الجثة، يعمل الأول على وصول الوثائق إلى شرطة مدينة ويلفا التي تتبع فعليًّا الشرطة النازية، فيما يعمل الآخر على إجراء مكالمة على أحد خطوط الاتصالات المُراقبة من قبل النازيين عمدًا مع الفريق الإنجليزي في لندن، وتتضمن المكالمة طلبًا سريًّا من الفريق الإنجليزي بالعثور على الوثائق الموجودة في حوزة الضابط الغارق وإعادتها بشكل سري.
تنجح الحيلة جزئيًّا بعبور المكالمة بالفعل عبر مكاتب التجسس الألمانية التي تستشعر أن أوراقًا مهمة تبحث عنها إنجلترا ولا يجب أن تخرج هكذا دون أن تقع في يد الجيش الألماني لمعرفة مضمونها.
تصل الأوراق إلى مكتب عميد إسباني اسمه مورينو، وهو من كارهي النازية داخل الشرطة، يشعر الإنجليز أن المهمة صارت مهددة، وأن الأوراق يجب أن تخرج من حوزة مورينو إلى النازيين داخل الشرطة الإسبانية، يتحرك أحد الضباط الإسبان المتفق مع الإنجليز، والمعروف عنه في إسبانيا أنه عميل لبرلين، ليتواصل سريًّا مع أحد أهم رجال هتلر في إسبانيا، ليخبره بأن عليه خدمة هتلر بالحصول على تلك الأوراق، وهو ما يحدث بالفعل.
(7)
الساعات الأولى من فجر العاشر من يوليو/تموز 1943 تتحرك السفن البحرية البريطانية باتجاه جزيرة صقلية، فيما كانت القوات الألمانية قد تحرَّكت بالفعل نحو اليونان، تدخل قوات الحلفاء إلى صقلية وسط مقاومة متدنية، وتسقط المدينة خلال ساعات تمهيدًا للتحرك نحو العاصمة الإيطالية روما.
تصل الأخبار في الصباح إلى موسوليني الذي يبدو أنه استيقظ على كابوس، ليرسل رجاله رسائل مباشرة إلى إدارة هتلر، في الوقت نفسه كانت الأخبار قد بدأت في الوصول إلى رجال هتلر قبل رسالة موسوليني بوصول قوات الحلفاء إلى صقلية، لكن الأزمة التي تواجه كافة رجال هتلر هو عجزهم عن الطريقة التي سيخبرونه بها بما حدث، متجنبين غضبه الشنيع.
لم تمر القليل من الساعات حتى أصبح من المستحيل إخفاء الأخبار عن هتلر أكثر من ذلك، ليواجه رجاله المقربين وأعضاء جهاز الاستخبارات عاصفةٌ صارخة من الغضب، حتى وصل به الأمر إلى اتهام مستشاره المقرب فون رون بالخيانة والمؤامرة عليه، خاصة أنه هو من تلقى التقارير الخاصة بالمصيدة، وهو من أقنع بها هتلر بعد اقتناعه بها، وحكم على فون رون في أكتوبر/كانون الأول من العام نفسه بالإعدام لاتهامه بالخيانة.
أرسل تشرشل رسالة إلى الفريق المسؤول عن المهمة، ليخبرهم “أن اللحم المفروم قد ابُتلع بالكامل”، مما يعني أن المهمة نجحت، وأن قوات الحلفاء قد تحقق لها ما تريد.
كانت تلك واحدة من أخطر وأقوى الضربات العسكرية التي غيرت مسار الحرب في شهورها الأخيرة، فسقوط إيطاليا وانهيار حاميتها العسكرية، وسقوط موسوليني فيما بعد، شكل كسر جناح خطر في جيش هتلر، فيما كسر الجناح الآخر بالانتصار الروسي على حصار ستالين غراد بسبب تغير الظروف المناخية، وفقدان ألمانيا أعدادًا ضخمة من المقاتلين، وكميات ضخمة من المؤن، جعلت نجاح الجيش الألماني مستحيلًا تقريبًا، وهكذا أسهم مايكل رغم أنفه في هذا النصر.