(1)
كان ذلك صباح يوم الحادي عشر من فبراير (شباط) لعام 1963.
تنهض في السابعة صباحًا من نومها الذي لا نعرف هل نالت حظًّا منه تلك الليلة أم لا، تعمد إلى المطبخ، تحضِّر بضع شرائح خبز وحليب وزبد، تصعد إلى غرفة صغيريها، تترك الطعام بجوارهما، وتحضِّر بطانيات إضافية إلى غرفتهما؛ إذ إن الطقس في ذلك اليوم كان شديد البرودة.
ورغم ذلك تفتح النافذة على آخرها، تغادر الغرفة، وتغلق الباب من ورائها، ولمزيد من الحرص، تُحكم سدَّ حواف باب الغرفة بشريط لاصق، تترك ورقة صغيرة في عربة الأطفال تتضمن طلبًا مهذبًا بالأحرف الكبيرة، ترجو فيها الاتصال بالطبيب الذي كتب لها وصفة المهدئات.
تعود إلى المطبخ، تحديدًا إلى الموقد وتشغِّل الغاز، تفتح الفرن، وبهدوء تقحم رأسها بداخله في استسلام تام؛ ليغزو أول أكسيد الكربون رئتيها ببطء وقسوة، وسرعان ما تلفظ آخر زفراتها وتموت.
(2)
كل مرة أقرأ حكايتها، أكسب حكمة ما، هذه المرة تخيلت أنها تحذِّرني من الوقوع في فخ البحث عن الكمال، وأنَّ على المرء ألا يطلب كل شيء، وأنه مطالب دومًا أن يختار، وأن الاختيار ربما هو أصعب ما يواجه الإنسان منَّا في الحياة.
كَتبتْ تحت عنوان: “الناقوس الزجاجي” ملخصًا لتجربتها في هذه الدنيا التي لم تتجاوز ثلاثين عامًا:
“رأيت حياتي تتكشف أمامي مثل أغصان شجرة التين الخضراء، عند طرف كل فرع ثمرة تين أرجوانية تلوح لي وتناديني وتعدني بمستقبل واعد، إحدى حبات التين تمثل زوجًا وبيتًا سعيدًا وأطفالاً، وحبة أخرى كانت تمثل شاعرة مشهورة، والثالثة معلمة لامعة، وأخرى وأخرى، حبات لم أستطع عدها، وفي النهاية وجدت نفسي أتضور جوعًا، فقط لأنني لم أستطع تحديد الحبة التي أريد اختيارها، كنت أرغب فيهم جميعًا، واختيار واحدة فقط يعني خسارة كل الآخرين”.
(3)
على عكس ما يعتقد الناس، ليس سهلاً أبدًا أن تكون موهوبًا، أن تعمل بنصيحة أمك -وأنت طفل- فتكتب مذكراتك اليومية، وأن يكون ذلك في المستقبل القريب فاتحة لك في عالم الأدب والشعر، وأن تبلغ التاسعة من عمرك فتجد من حولك يندهشون مما تكتب، ويقومون بنشره؛ المدرسة، وحتى بعض الصحف المحلية.
ليس سهلاً أبدًا أن تكون في عالمنا هذا امرأة ذكية وشجاعة وعصامية، تكره القيود، وتقدِّس الحرية، ومهمومة بالكمال.
تخوض في الحياة بقسوة، تتدرج في سلَّم الشهرة، تكتب، وتكتب، وتحتل مكانتك الأدبية بجدارة، وأنت ما زلت شابة.
(4)
تستطيع أن تصنع نفسك، فتحصنها جيدًا ضد صواريخ الحياة، تبني طبقة عازلة تحميك من ضجيج العالم، تزينها من الخارج، وتنظم] سكانها من الداخل.
نعم تستطيع أن تصنع نفسك، أن تتحكم فيها، لكن لا تستطيع أن تفعل ذلك مع الحياة، لا تستطيع أن تمنع الموت أن يختار أباك، حبك الأول، وأنت في الثامنة من عمرك، فتلوم أمك وكأنها المسؤولة، وتقضي ما تبقَّى من حياتك القصيرة تبحث عن هذا الأب الضائع.
وأن تعاني من الكآبة والانهيار العصبي، ويدخلوك المصحَّات العقلية، ويعالجوك بالصدمات الكهربائية.
ورغم ذلك تزداد شهرتك، بل تستغل أزمتك فتكتب روايتك الوحيدة:Bell Jar ، معتمدًا على أحداث حياتك العاصفة، كأنك ما زلت تعمل بنصيحة أمك في كتابة مذكراتك، فضلاً عن الشعر الذي سيجمعونه بعد رحيلك، ويهدونك جائزة بوليتزر كأول شخص ينالها بعد وفاته.
وإن كان ذلك كله يحتمل، فإن الخيانة لا تحتمل أبدًا من شريك الحياة الذي أنجبت منه طفليك، هذا الذي طالما اعتبرته أعظم شاعر بريطاني، فضلاً عن أنه أعظم رجل على الإطلاق.
(5)
“ما الذي كنت أنتظره من امرأة عضَّتني في أول لقاء لنا، بدل أن تقبِّلني”.
“من عرفها ظاهريًّا لم يكن ليتكهَّن أبدًا بأنها تخفي داخلها مقاتلة شرسة، وأنها أكثر بكثير من فتاة أنيقة ترفع شعرها ذيل حصان، أو من تلك الصبية التي توحي بها لأول مرة، كانت أكثر تعقيدًا من ذلك”.
هذا ما دافع به عن نفسه الإنجليزي الشهير تيد هيوز، وكأنه ينفي أن يكون هو سبب انتحارها بعد أن التقيا وكانت طالبة بعد، ووقعا في الغرام وتزوجا عام 1956، ورزقا بطفلين فريدا ونيكولاس.
تيد هيوز الذي يُعد كأحد أفضل شعراء جيله، وأحد أعظم الكتَّاب في القرن العشرين، تركها بعد ست سنوات لأجل امرأة أخرى، وبذلك أصبح هو الرجل المتهم الملعون، خصوصًا وأن امرأته الثانية -آسيا فيفل- انتحرت عام 1969 بالطريقة نفسها، أي: بالغاز، منهية -أيضًا- حياة ابنتهما شورا، ذات الأربع سنوات.
في رواية بعنوان: “أنت قلت”، تحكي الكاتبة الهولندية كونى بالمن قصة هذين الحبيبين الشهيرين، منذ التقيا طالبيْن؛ لتكون المرة الأولى التي تسرد الحكاية من وجهة نظر هيوز الذي توفي عام 1998، والذي ظلَّ صامتًا خلال 36 عامًا منذ حادثة الانتحار، وكأنها تمنحه فرصة أخيرة للدفاع عن نفسه.
(6)
في دفتر يومياتها كتبت في يوليو عام 1950: “لن أكون سعيدة أبدًا ربما، لكني الليلة راضية، لا شيء سوى منزل فارغ، إرهاق غامض دافئ من يومٍ قضيته في زرع براعم الفراولة في الشمس، قدح من لبن حلو بارد، وصحن من حبوب العنب المغمورة بالقشطة، أدرك الآن كيف يعيش الناس من دون كُتب، من دون مدرسة، حين يكون المرء تعبًا في نهاية اليوم عليه بالنوم، فيواصل العيش قريبًا من الأرض، في أوقاتٍ كهذه أكون حمقاء لو طلبت المزيد”.
مصابة دومًا بالاكتئاب، حزينة على خساراتها في الحياة، وعلى عوائق تمنعها من تحقيق أحلامها بالكمال.
“حررني من الطهي ثلاث مرات في اليوم، حررني من قفص الروتين والعادة الذي لا يرحم، أحب الحرية، وأكره كل القيود، أنا قوية، أعتقد أنني أود أن أُطلق على نفسي اسم: الفتاة التي أرادت أن تكون الإله”.
(7)
في بوسطن ولدت سيلفيا بلاث في 27 من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1932، وتُوفيت منتحرة عام 1963، بعد وفاتها كُرِّمت كثيرًا، وأثارت من الجدل الكثير، لكن من المؤكد أن هذه الشاعرة والأديبة الأميركية، كانت صادقة تمامًا حين كَتبت: الموتُ فنٌّ، ككل شيء آخر، وإني أتقنه تمامًا.