(1)
أسفل تل سان كريستوبال، وفي بيت أنيق تُغَشِّيه عروق التوت، ويُسمع فيه صوت هدير الماء القادم من قناة مجاورة، هناك في العاصمة التشيلية سانتياغو يجلس شاعر فائق الرومانسية اسمه: بابلو نيرودا.
قبالته تجلس هي، صحفية تراوح الثلاثين من عمرها، وما أن ينتهيا من وجبة الطعام، حتى تتأهب لمحاورته.
“يستحيل أن أسمح لكِ بمحاورتي، أنتِ أسوأ صحفية على وجه الأرض، تكذبين طوال الوقت، لا يمكنك أن تقولي الحقيقة. أنتِ تضعين نفسك دائمًا وسط كل شيء. لا يمكنكِ أن تكوني موضوعية. أنا واثق بأنه إذا لم يكن لديَّ ما أقوله فسوف تختلقين قصة ما. أأخبرك أمرًا؟ لماذا لا تتجهين إلى كتابة الأدب؛ إذ تصبح تلك العيوب كلُّها مميزات وفضائل؟”
أما هي فكأن مطرقة أصابت رأسها.
أما هو فقد توفي بعد هذا اللقاء بعدة أسابيع.
أما بلدهما فيشهد عام 1973 انقلابًا عسكريًّا على يد بينو تشيه، ضدَّ حكم اليساري سلفادور ألليندي ابن عم والدها.
ثم بعد عدة محاولات للتشبُّث بالوطنِ ورفضِ مغادرته، وجدت نفسها مجبرة على الرحيل، فكانت وجهة المنفى فنزويلا.
(2)
“لم يكن بوسعي اصطحاب الكثير؛ حقيبة صغيرة اعتنقت بداخلها ما تبقَّى لي من ثياب، صور عائلتي، حقيبة أخرى متسخة من حديقتي، ونسخة عتيقة من أشعار باولو نيرودا. وفي نيتي أنِّي أحزم قطعةً من تشيلي، وكان نيرودا تحفةً أخرى من هذه التحف، وحلمًا آخر تشظَّى ذلك الصباح”.
(3)
تعيش المنفى في العاصمة الفنزويلية كاراكاس، تلتحق بمدرسة كمعلمة.
مهنة جديدة بالنسبة لها.
في قاعة درسها ما يربو على خمسة عشر طفلاً، كأنهم شياطين، ضجيج وصراخ ومقاعد تطير في الهواء، تكاد أن تبكي، إلى أن تدخل الفصل سيدة بدينة، بيدها مكنسة ودلو، سرعان ما تخلت عنهما، وراحت تحكي للأولاد قصة، وكأنها لحظة سحرية، فقد ساد الهدوء فجأة، وراح التلاميذ ينصتون لها، وكأن على رؤوسهم الطير، ويبدو أن صاحبتنا المعلمة الجديدة اعتبرت الأمر كأنه إشارة لها أن.. تحكي الحكاية.
(4)
في كاراكاس -أيضًا- تتلقى مكالمة من عائلتها يخبرونها أن جدها البالغ زهاء مائة عام يحتضر، تستجمع نفسها لتكتب له رسالة؛ أملاً أن تبقيه -هو أو روحه على الأقل- على قيد الحياة، لاحقًا تصبح هذه الرسالة كبذرة لأول رواية لها، تصدر عام 1983، وتمنحها اسم: “بيت الأرواح” الذي كانت تنتوي به طرد أشباح ديكتاتورية بينو تشيه.
فرِحة ونادمة في ذات الوقت من أن إطلاق روايتها الأولى قد استغرق كل هذه السنين، منذ نصيحة نيرودا لها.
وهكذا استطاعت أن تكتشف صوتها الخاص كروائية في الأربعين من عمرها، لتبدأ مهمتها الأصعب من خلال كتابة روايتها الثانية: “الحب والظلال”.
وقد وضعت في اعتبارها ما ذكرته لها وكيلتها الأدبية:
“الجميع بإمكانه تأليف كتاب أول جيد؛ لأنهم يضعون فيه كلَّ ما في حوزتهم، ماضيهم وذكرياتهم وتوقعاتهم. الكاتب الحقيقي يُثبت نفسه في الكتاب الثاني”.
تُصدر كتابها الثاني والثالث إلى السابع والعشرين.
(5)
كثرٌ يتلقون الصدمات فينهارون.
كثرٌ يسمعون النصيحة فلا يكترثون.
كثرٌ تمر بهم الإشارات فلا يفهمون.
كثرٌ يئدون أحلامهم إذا ما كبروا.
كثرٌ يعجزون عن اكتشاف صوتهم الخاص.
إيزابيل ألليندي لم تفعل ذلك.
(6)
“نحن لا نعيش الحياة في خط مستقيم، بل نعيش الحياة في دوائر، نعتقد أن السنين تُبعدنا عن الشيء، ثم نتفاجأ بأننا كنا في رحلة طويلة للعودة إليه”.
“لستُ أدري في أي منعطف على الطريق أضعت الشخص الذي كُنته فيما مضى”.
“ليس من الحكمة الوثوق بالعقل وبحواسنا المحدودة فقط لفهم الحياة، هناك أدوات أخرى للإدراك، كـ: الغريزة والخيال والأحلام والعواطف والحدس”.
“جميعنا لدينا في داخلنا احتياطي مؤكَّد من العزيمة يتكشَّف عندما تُخضعنا الحياة لمحنها”.
“لا أحد يمنحنا شيئًا، بل إن الأشياء تُؤخَذ عَنوة. ولو سهوت، انتُزِعَت من بين يدَيْك انتزاعًا”.
“أكتبُ لأجلو الأسرار القديمة في طفولتي، ولتحديد هُويتي، ولأخلق أسطورتي الخاصة”.
“أعتقد أنه يمكن تجربة الحبِّ والفرح في أي عمر؛ لقد أتممت الثمانين، ولا زال لديَّ نفس القدْر من الطاقة والفضول الذي كان لديَّ قبل ثلاثين سنة”.
(7)
إيزابيل ألليندي واحدة من أبرز كاتبات أمريكا اللاتينية، بل ومن أكثر الكتَّاب قراءةً في العالم، وهي من الأسماء التي تمَّ ترشيحها لأكثر من مرة لنيل جائزة نوبل. تُرجمت أعمالها إلى 42 لغة عالمية، وبيع منها أكثر من 75 مليون نسخة، كما نالت أكثر من 60 جائزة في 15 دولة.
الحمد لله أنها أنصتت لنصيحة من صدمها.