(1)
“إياك أن تضع قدمًا في مهنتك والأخرى في حلمك، امض قُدمًا واترك كل شيء، أو هب نفسك صاغرًا لهذه الحياة”.
رغم رغبته في الصحافة والأدب، يضطر صاحبنا إلى الالتحاق بكلية الكيمياء، تحت ضغط والده المهندس المشهور، ولأنه لم يُعْرِ الدراسة في الكلية اهتمامه -منفقًا معظم وقته عاملاً في صحيفة الجامعة- فقد فُصل من كليته، في وقت كانت أسرته تعاني أزمة مالية شديدة؛ نتيجة الكساد العظيم الذي أصاب البلاد، فيقرر هذا الشاب الأمريكي أن يتطوع في الجيش، ويلتحق بالجبهات.
يعود يومًا لقضاء عطلة عيد الأم، ليجد والدته قد انتحرت في الليلة السابقة بتناول جرعات زائدة من الحبوب المنوِّمة، بعد أن أصابها الاكتئاب الشديد.
في ألمانيا -وبعد ثلاثة شهور من هذه المأساة- يقع في أَسر القوات الألمانية، ولشدة سوء حظه يهاجِم سلاحُ الجو الملكي البريطاني القطار الذي يُقله مع الجنود الأسرى الآخرين، عن طريق الخطأ؛ إذ لم يحمل القطار علامة الصليب الأحمر المميزة لقطارات الأسرى، مما أسفر عن مقتل 150 منهم، أما هو فينجو، ويصل معسكر الأسرى في مدينة درسدن الألمانية، حيث الشتاء الأسوأ هذا العام، الذي يحول دون وصول مساعدات الصليب الأحمر، لتزداد معاناتهم في معسكرهم الذي يطلق عليه: مسلخ رقم خمسة، وهو جزء من مسلخ مركزي كبير في المدينة حيث يتم ذبح الحيوانات ومعالجتها للاستهلاك البشري.
(2)
“عندما ذهبتُ إلى الحرب في الحرب العالمية الثانية، كان لدينا تخوفان: الأول: أننا سنقتل. والآخر: هو أننا قد نضطر إلى قتل شخص ما. والآن أصبح القتل كالمرح لا أكثر”.
درسدن أجمل وأرقى مدينة رآها على الاطلاق في رأيه الشخصي، لكن في صباح 13 فبراير 1945، ستفقد جمالها بعد شن القوات الأمريكية البريطانية هجومًا ضاريًا على المدينة، لتُسقِط الغارة التي قوامها 800 قاذفة نحو 2700 طن من المتفجرات والمواد الحارقة عليها، لتُبيد على مدار يومين قرابة ثلاثين ألف من المواطنين الألمان العزل، أما هو فقد نجا مرة أخرى.
يأتي هذا الهجوم بعد أقل من شهر من مقتل قرابة عشرين ألف جندي أمريكي على يد القوات الألمانية في معركة بولج، وبعد ثلاثة أسابيع من اكتشاف الفظائع التي ارتكبتها القوات النازية في أوشفيتز، ومع محاولة قوات الحلفاء دفع ألمانيا للاستسلام.
تنتهي الغارة ويصبح على صاحبنا ورفاقه أن يُخرِجوا آلاف الجثث وفتات البشر من تحت الأنقاض والمباني والساحات العامة.
(3)
“كنا نسير كل يوم إلى المدينة ونحفر في الأقبية والملاجئ؛ لإخراج الجثث كتدبير صحي. عندما ذهبنا إليهم بدا ما كان في السابق قبوًا عاديًّا كما لو أنه عربة ترام مليئة بالأشخاص الذين عانوا -جميعًا في نفس الوقت- من قصور القلب. مجرد أشخاص جالسين هناك على مقاعدهم هناك، كلهم موتى”.
“ذهبنا للعمل مطوَّقين بالجنود الألمان. لم يمكن للمدنيين رؤية ما كنا نفعل. في البداية لم تنبعث منها أي رائحة كريهة؛ كانوا كأنهم في متاحف الشمع، ولكن بعد أيام من تراكم الجثث فوق بعضها بدأت بالتعفن والتحلُّل، وكانت الرائحة أشبه بمزيج من رائحة الورود وغاز الخردل”.
“وهنا وجد الألمان حلاًّ مبتكرًا للتعامل مع هذا العمل الكريه؛ فالحاجة أم الاختراع؛ لن يُستخرج المزيد من الجثث؛ كنا نقتحم المأوى، ونجمع الأشياء الثمينة من أحضان وجيوب الناس دون محاولة تحديد هويتهم، ونسلِّم تلك الأشياء الثمينة إلى الحراس، ثم يأتي الجنود ومعهم قاذف اللهب ويقفون في الباب ويحرقون الجثث الموجودة بالداخل”.
“إن الدمار الذي لحق بدرسدن كانت تجربتي الأولى مع الخراب المذهِب للعقول. أن تُحرَق مدينة عامرة وزاهرة بأكملها على هذا الوجه، كنتُ مأخوذًا بالخراب، هذا الخراب المريع وحماقة الحرب”.
(4)
“كل شخص لديه شيء يمكنه القيام به بسهولة، ولا يمكنه تخيُّل سبب وجود الكثير من المتاعب لدى الآخرين في القيام به”.
يبدو أن هذه الأحداث الجسام التي مرت به خلقت منه كاتبًا بارعًا، أو قُل: هو استغلها ليعبِّر عمَّا به، وعن مواقفه في الحياة؛ فقد اغتنم الفرص أينما لاحت له، واستفاد منها قدر استطاعته، سواء كان ذلك في البحث، أو وضع الخطوط العريضة، أو الكتابة، أو التواصل.
ومع عام 1950 يبدأ مسيرته المهنية الأدبية، ليُصدِر لاحقًا أولى رواياته: “بيانو ميكانيكي”، لكن أهم ما كتب هو “المسلخ رقم خمسة”، وفيه عبَّر عن مشاعره المناهضة للحرب، ليحظى بعدها بالشهرة والاعتراف العالمي به كاتبًا لامعًا، ويحصل على العديد من الجوائز والأوسمة، وينشر عدة مقالات عن سيرته الذاتية ومجموعات قصصية، مثل: مصير أسوأ من الموت (1991)، ورجل بلا وطن (2005).
تزوج مرتين، وأنجب ثلاثة أطفال، وتبنَّى أربعة آخرين، وحين سُئل عن براعته أرجع الفضل إلى (إيدا يونغ) طاهية ومدبرة منزل عائلته التي تنحدر من أصل إفريقي، قال: إنها “أعطته تعليمات وإرشادات أخلاقية رفيعة، وكانت لطيفة للغاية معه”، ووصفها بأنها “إنسانة وحكيمة”، وأضاف: إن “جوانب الرأفة والتسامح في معتقداته” كانت نابعة منها. وربما هذا الذي جعله يمقت الحرب وشناعتها وما تخلفت عنه.
(5)
“الفنُّ ليس وسيلةً لكسب العيش، بل الطريقة الأكثر إنسانيةً لجعل الحياة أكثر احتمالاً. إنَّ ممارسة الفن -دون النظر في مدى براعتك جيدًا كنت أم سيئًا- هو السبيل الأمثل لإنعاش روحك والسمو بها”.
وُلد كورت فونيغوت في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 1922، وتوفي في أبريل/ نيسان 2007 في نيويورك. يتضمَّن إرثه الأدبي 14 رواية، وأكثر من 50 قصَّة، بالإضافة إلى مقالات، وبضع مسرحيات وسيناريوهات، بين الكوميديا السوداء والخيال العلمي. صدرت روايته “المسلخ رقم خمسة” عام 1969، لتكون واحدة من أهمِّ الأعمال الأدبية الأمريكية في القرن العشرين. ومن بين أهمِّ أعماله الروائية -أيضًا: “صفارات الإنذار التيتانية”، “أمّ الظلام”، “مهد القطة”، و”إفطار الأبطال”.
ما أحلى أن يفعل المرء ما يحب!