(1)
تم اعتقالي يوم السادس من سبتمبر عام ألفين وثلاثة، بتهمة الانتماء إلى منظمة إرهابية مسلحة، وبعد الخضوع للتحقيقات وبحث الأدلة المزعومة غيرت المحكمة رأيها، ووجهت لي تهمة التعاون مع منظمة إرهابية، ونقلت إلى سجن “سوتو ديل ريال”.
بعد ذلك بشهرين قبلت المحكمة الإفراج عني بكفالة بانتظار المحاكمة، ثم أعيد اعتقالي في عام ألفين وأربعة بذريعة احتمال هروبي من البلاد، مع أنهم كانوا قد احتجزوا جواز سفري، ونقلوني إلى سجن ألكالا ميكو، ثم أفرجوا عني في مارس عام ألفين وخمسة قبل المحاكمة التي بدأت في مايو وانتهت في يوليو من نفس العام، وبعد صدور الحكم بالسجن سبع سنوات أودعوني في سجن ألكالا ميكو مرة أخرى.
(2)
السجن مشدد الحراسة، يقع في الأطراف الغربية لمحافظة مدريد، ويبعد عن مركز المدينة بنحو أربعين كيلومترا، وهو مبنيّ وفق تصميم سويسري يحقق أقصى درجات الأمن ويتيح التحكم بنزلائه ومراقبتهم على مدار الأربع والعشرين ساعة، وهو مزود بوسائل كثيرة للمراقبة، مع أسوار عالية وكاميرات للمراقبة في جميع أرجائه.
يتسع السجن لحوالي ألف سجين، وينقسم إلى قسمين، أحدهما للنساء والآخر للرجال، وهو يستضيف ذوي الجرائم الخطيرة، أو السياسيين المعروفين والشخصيات العامة ورجال الأعمال الذين ينالون أحكاما بالسجن بسبب تهم فساد أو غيرها، كما يستقبل المتهمين أو المحكومين بتهم تتعلق بالإرهاب، كأعضاء منظمة إيتا الباسكية.
أما زنزانتي فمساحتها ستة أمتار مربعة، أو هكذا قالت الصحف، فلم يخطر ببالي أن أقيس أبعادها، وتبدأ بباب حديدي سميك فيه ثقب بحجم قطعة العملة المتوسطة يستخدم لأغراض التفقد اليومي والمراقبة، وعلى جانبها الأيسر جدار مدهون بلون أخضر قاتم بارتفاع متر ونصف تقريبا والباقي باللون الأبيض، وعلى يمين الداخل هناك مرحاض صغير ومغسلة وخزانة ذات رفوف إسمنتية وبدون أبواب، ثم سرير إسمنتي طوله نحو متر وثمانين سنتيمترا.
وتنتهي الزنزانة بطاولة إسمنتية ملتصقة بالجدار المقابل للباب وكرسي بلاستيكي، ونافذة زجاجية مستطيلة ذات إطار حديدي، وقضبان حديدية سميكة، وتطل النافذة على باحة بطول عشرين مترا وعرض ستة أمتار وتستخدم لفترات التنفس التي تبلغ ساعتين ولمرتين يوميا، ويقابل النافذة سور إسمنتي عالٍ.
(3)
كان صباح مشرق أواخر الربيع عام ألفين وستة، حين أخرجنا الحراس من الزنزانات لحصة التنفس، وكنت أستغلها للمشي السريع لتليين ما تصلب من عضلاتي بسبب الأوقات الطويلة التي أقضيها في زنزانتي الانفرادية، أثرثر مع بعض النزلاء في أثناء المشي.
صدح مكبر الصوت يعلن أن لدي زيارة، عجبت للأمر فعائلتي في الدوحة، واعتادوا أن يزوروني خلال العطلة الصيفية، ولم أكن أتوقع أية زيارة في مثل هذا الوقت من السنة.
اقتادني الحارس إلى قسم الزيارات، وسألته عن هوية الزائر فقال: إنه لا يعرف، خصصوا لي كابينة من قسمين يفصل بينهما حاجز زجاجي ومزودة بمقعد بلاستيكي، وعلى حافة الحاجز الزجاجي وضعوا جهاز هاتف.
بعد دقائق دخلت إلى الجانب الآخر من الحاجز سيدة طويلة القامة بملامح أوروبية، ألقت علي التحية بلغة إسبانية تشوبها لكنة، وقدمت نفسها: “ليسلي كراوفورد صحفية أعمل للفايننشال تايمز في مدريد”.
تذكرت أن زوجتي روت لي أن هذه الصحفية أجرت مقابلات مطولة معها ومع عدد من أصدقائي ومحاميّ، وكانت تعد مقالا مفصلا عن قضيتي لصحيفتها، سألتها عن سبب تأخرها في نشر المقال، فأجابت بأن إدارة الصحيفة وافقت على نشره لكن شريطة استكماله بمقابلة شخصية معي.
وبحكم أن زيارتي في السجن لم تكن متاحة لأي شخص باستثناء من أطلب بنفسي الموافقة على مقابلتهم، على أن أبرر طلبي بكون الزائر صديقي أو أحد أقاربي، فقد قدمت طلب السماح لهذه الصحفية بزيارتي على أنها صديقة لي، كون زيارات الصحفيين ممنوعة، وكان ذلك في بدايات السنة، ومرت ثلاثة أشهر دون استجابة، فنسيت الأمر.
(4)
خلال الزيارة أجرت الصحفية معي حديثا مطولا سألتني خلاله عن أوضاعي في السجن، فأوضحت لها أن نظام السجن المكتوب يعطي انطباعا أنه عبارة عن إقامة خمسة نجوم لكنه في الواقع العملي غاية في البؤس، وأخبرتها أن إدارة السجن تعمل على ألا يحصل النزلاء المحكومون أو المتهمون بقضايا الإرهاب على أية تسهيلات أو تخفيف للعقوبات بأي شكل من الأشكال.
وعرضت عليها عبر الزجاج نسخة من تقرير رئيس وردية الحراسة بشأن تقييمه لي ولسلوكي في السجن، ويذكر التقرير عبارات من قبيل: سجين ما يزال يعتنق الأفكار الإرهابية ويتمسك بها، ويروجها بين السجناء.. إلخ.
اتسعت عيناها من الدهشة وسألتني: لكن كيف عرفوا أفكارك؟! وكيف عرفوا أنك متمسك بها؟! وكيف تروج لها وأنت في زنزانة انفرادية، واختلاطك بالسجناء ممنوع ويقتصر على بضعة أشخاص ولوقت محدود في الباحة؟!
قلت لها: إن الحراس يحظر عليهم الاقتراب مني أصلا، أو إجراء أي حديث معي سوى ما يتعلق بالحاجات الضرورية، فسألتني إن كان بإمكانها الحصول على نسخة من التقرير، فقلت لها: إن كل التقارير موجودة لدى المحامي، فالقانون يبيح له الحصول على نسخة من ملفي في السجن.
في أوائل شهر يوليو عام ألفين وستة نُشر المقال في الطبعة الأسبوعية لفايننشال تايمز التي تصدر يوم الأحد، ويوم الاثنين كان العدد على طاولة رئيس الحكومة الإسبانية في حينها، خوسيه لويس ثاباتيرو.
في اليوم التالي، استدعاني ضابط الأمن في السجن وقال لي: إن المدير يريد مقابلتك، وفي الطريق إلى مكتب المدير خاطبني باستنكار: “ماذا فعلت يا رجل؟!”، “ماذا فعلت؟!”، أعطيت مقابلة لصحيفة دولية، ألا تعرف أن هذا ممنوع عليك؟”، “نعم أعرف ومع ذلك أعطيت المقابلة، وأنت يمكنك استخدام صلاحياتك القانونية لمعاقبتي، لكن أظنني أخضع لأقسى العقوبات عندكم، فأنا في زنزانة منفردة، والجناح الذي أنزل فيه يخضع لنظام صارم في كل شيء، والزيارات محدودة جدا، ومكالماتي مع أسرتي محدودة وتخضع للمراقبة، ولا أظن أنه بقيت لك وسيلة إضافية لمعاقبتي سوى الكرسي الكهربائي”، “على أية حال دعنا نرى ماذا سيقول المدير”.
(5)
في الطريق إلى مدير السجن أتذكر الزيارة الأولى التي قامت بها عائلتي، وكانت في عطلة عيد الميلاد عام ألفين وخمسة، أي بعد ستة أشهر من دخولي السجن، حيث قطعت العائلة ما يزيد عن أربعمائة كيلو متر لتصل مدريد قادمة من غرناطة قبل يوم من موعد الزيارة، لتمضي ليلة في فندق، وفي الصباح تستقل مترو الأنفاق إلى محطة الباصات التي توصلها إلى القرية القريبة من السجن، ومنها يستقلون سيارة أجرة.
رحلتهم بدأت في السادسة صباحا، وعند الثامنة كانوا عند البوابة يسلمون أوراق التصريح بالزيارة، ومن ثم ينتظرون نحو ساعة في العراء، ثم يسمح لهم بالدخول، ليجتازوا مسافة طويلة مشيا على الأقدام مع طفل رضيع تحمله زوجتي.
عند البوابة الداخلية تنتظر عائلتي في قاعة شبه مكشوفة ليست فيها تدفئة إلى أن ينادوا عليهم للزيارة، فيسيرون مسافة أخرى داخل منشآت السجن وصولا إلى القاعة التي تجري فيها المقابلة، وهي قاعة واسعة تتوزع فيها طاولات يحيط بكل منها أربعة كراسي، تجمع السجناء مع ذويهم.
لكن ما حدث أن موظفا في السجن أبلغ زوجتي أن الزيارة العائلية – وبحسب قوانين السجن – يجب أن تقتصر على أربعة أشخاص فقط، ومجموع أفراد عائلتي ستة.
أضاف الموظف أن الإدارة درست الموضوع وقررت تسهيلًا للأمور أن تترك زوجتي طفلين عند مدخل السجن، وتدخل هي مع الثلاثة الآخرين، وعند منتصف مدة الزيارة التي تمتد لتسعين دقيقة يخرج اثنان من الأولاد ويدخل الاثنان اللذان ينتظران عند المدخل.
لم تصدق زوجتي ما سمعته من الموظف، وقالت له فورا: إنها ترفض هذه الترتيبات، ولن تفارق أولادها ولو لدقيقة، فقال لها: إنهم سيكونون تحت حمايتنا، فردت عليه: ومن قال لك: إنني أثق بكم؟ وأي الأولاد سأترك؟ وأي الأولاد سيدخلون معي؟ وهل تضمن أن الذين سأتركهم لن يشعروا أنني ميزت إخوتهم عنهم وأدخلتهم قبلهم؟ أبلغ الإدارة أننا إما أن ندخل جميعا أو لا ندخل بالمرة.
في هذه الأثناء كنت بانتظار أن ينادونني قبيل الساعة التاسعة للقاء عائلتي، وتأخروا كثيرا فبدأت أقلق، وبعد التاسعة بقليل، جاء رئيس وردية الحراسة يشرح لي ما حصل ويطلب مني أن أقنع زوجتي بالحل المقترح لإتمام الزيارة، فقلت له: لن أقنعها بشيء، وإما أن يدخلوا جميعا أو تلغى الزيارة.
بدأ يشرح لي كيف أن الإدارة اجتمعت رغم أنه يوم عطلة في محاولة لحل المشكلة، وقال: “ساعدنا لكي نساعدك في حل مشكلتك، وأرجو ألا تحولها إلى مسألة عاطفية، فقد توصلنا إلى حل وسط يضمن تطبيق قوانين السجن ويتيح لك لقاء العائلة”.
أجبته: “أولا المشكلة ليست مشكلتي بل مشكلتكم، وثانيا أرجو أن تحسن اختيار الألفاظ، فهي ليست مسألة عاطفية، بل إنسانية تتعلق بمشاعر أطفال قاصرين، وأمامكم أحد حلين، إما إلغاء الزيارة وستجدون القصة غدا على وسائل الإعلام المحلية والعالمية، أو أن ألتقي بكامل أفراد عائلتي”.
أدار ظهره ومضى، وبعد نحو نصف ساعة عاد ليدعوني إلى قاعة الزيارات، فقد وافقت الإدارة على لقاء كامل أفراد العائلة.
بعد هذه الواقعة، كتبت زوجتي رسالة لدائرة تابعة لوزارة العدل اسمها “محامي القاصرين”، وشرحت لهم ما حصل معها ومع الأولاد، فخاطبت الدائرة إدارة السجون العامة وأجبرتها على تغيير هذا القانون الذي يحدد الحد الأعلى للزائرين إن كانوا من أفراد العائلة من الدرجة الأولى.
(6)
أدخلني الحارس إلى مكتب المدير، واستقبلني هذا بجفاء واضح، وكرر علي الأسئلة نفسها، لكنه ركز على نقطة واحدة قائلا: إن أكثر ما يحيره هو كيف تمكنت من تمرير نسخة التقرير الأمني إلى الصحفية البريطانية؟ فسألته: “أتصور أنكم فتشتم الكابينة التي قابلت فيها الصحفية؟”، “بالتأكيد لكننا لم نعثر على أية ثغرة فيها”، “أنا لم أسلمها النسخة طبعا، بل اكتفيت بعرضها عليها من خلال الزجاج ونصحتها بالحصول على نسخة منها ومن تقارير أخرى عبر المحامي”.
أحمرّ وجهه بشكل واضح وشعر بحرج شديد وقال: “نحن نعرف أن لديك نفوذا في الصحافة العالمية، لكن هذا لا يبرر لك خرق أنظمة السجن، وأنت تخضع لنظام خاص بالمحكومين بقضايا الإرهاب”، “ليس لدي أي نفوذ في الصحافة العالمية، لكن كثيرا من زملائي حول العالم مؤمنون ببراءتي ولم يقتنعوا بعدالة الحكم الصادر ضدي، فهو يتضمن خروقات واضحة لحقوقي الدستورية”، “لعلك تعرف أن هناك مساعي لتخفيف الإجراءات التي تخضع لها، فأرجو أن تتقيد بالنظام وتساعدنا لكي نستطيع مساعدتك”، “سمعت كثيرا عن مساع بهذا الشأن، لكنني لا أصدقكم ما لم ألمس هذه الإجراءات على أرض الواقع، وسوف أستمر في إعطاء المقابلات الصحفية لمن يرغب، فهذه هي الوسيلة الوحيدة للدفاع عن نفسي بعد أن تجاهل القضاء الحجج القانونية التي ساقها محاميّ في أثناء المحاكمة، وأنا لم أطالب سوى بتطبيق القانون في قضيتي لكن القضاة تجاهلوا مواد القانون بشكل واضح، وأصدروا ضدي حكما سياسيا بامتياز، فهو لا يستند إلى أية أدلة”.
(7)
أمضيت ما مجموعه سنة ونصف تقريبا في السجن، منها خمسون يوما في جناح الجرائم العادية، والباقي في زنزانة منفردة في جناح مشدد الحراسة مخصص لأصحاب الجرائم الخطيرة، وفي أكتوبر من عام ألفين وستة صدر قرار إحالتي إلى الإقامة الجبرية في منزلي بسبب وضعي الصحي، ووضعوا لي طوقا حول قدمي لرصد تحركاتي، وكان يسمح لي بالخروج من المنزل ساعتين يوميا لشراء احتياجاتي الغذائية أو للنزهة في حديقة قريبة.
تقدم محاميّ بطلب استئناف للمحكمة العليا فرفضوه، وحضرت زوجتي الجلسة وكانت مهزلة حقيقية، وقد روت لي أن المدعي العام بدأ بتلاوة حيثيات الحكم الصادر ضدي، وذكر عددا من التصرفات الإجرامية، وهذه التصرفات والتهم كنا سمعناها بحق متهم آخر في أثناء المحاكمة الأولى.
وبعد الجلسة التقته زوجتي برفقة المحامي، وأبلغته أنه كان يتحدث عن متهم آخر ويجب أن يراجع ملفاته، وذكرت له اسم المتهم المقصود، فاعتذر لها أن القضية كان مكلفا بها أحد زملائه وقد ذهب في إجازة مرضية، فكلفوه بالقضية في اللحظة الأخيرة واختلطت عليه الأمور.
لم ينفع احتجاجها ولا الطلب الذي تقدم به المحامي لتصحيح الأمور، وأصبحت أنا على قناعة كاملة بأن الحكم صدر مسبقا، وأن جلسات المحاكمة الطويلة كانت من باب الحفاظ على الشكليات.
تقدم المحامي أيضا بطلب استئناف إلى المحكمة الدستورية، وتضمن الطلب تسعة خروقات لحقوقي الدستورية، لكن هذه المحكمة رفضت الطلب دون إعطاء تبرير منطقي للرفض، فأصبح لدي الحق في اللجوء إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وأدرج المحامي الخروقات الدستورية التسعة التي تعرضت لها.
في السادس عشر من يناير عام ألفين واثني عشر، وقبل انتهاء مدة الحكم بنحو أسبوعين صدر حكم المحكمة الأوروبية لصالحي، وكان يشكل إهانة للقضاء الإسباني وفضيحة حقيقية، والمؤسف أن هذه المحكمة بحثت في خرق واحد من الخروقات الدستورية، ويتمثل في أن تشكيلة المحكمة التي حاكمتني في إسبانيا تخرق بشكل واضح إحدى مواد قانون أصول المحاكمات الجنائية الإسباني، وأصدرت حكمها ببطلان المحاكمة وكل ما ترتب عليها بسبب عدم حيادية المحكمة.
أوردت بعض الصحف الإسبانية الخبر في زوايا مهملة وبكلمات مقتضبة، وهي ذات الصحف مع نشرات الأخبار المسموعة والمرئية التي حرصت شهورًا طويلة على نشر أخبار الاتهامات الموجهة لي، متجاهلة صفتي الصحفية، مع نشر صوري واسمي كاملا “تيسير علوني”.