(1)
أفهم أن بعض الأمور في حياتنا ذات جدوى حتى وإن بدت غير ذلك، أو قُل: لها سلبيات وإيجابيات.
لكن هذا الألم الذي يكرهه الجميع هل يمكن أن يكون له جدوى، أن تكون له ثمة فائدة ما في حياتنا؟
هل نعزِّي أنفسنا حين نقول: إنه لا بأس ببعض الألم، فإنه السبيل إلى النجاة، هل نكذب؟ أم نقول الحقيقة، أم نبالغ فيها؟
(2)
يلمس شيئًا ساخنًا جدًّا، لا يشعر بشيء، يحترق جلده، يُدرك قيمة الألم، ونعرف أن هذا مرض خطير يصيب قلَّة، لكنه موجود ويعاني أصحابه بشدة، فهذا الشعور الخاطف بالألم الذي يجعلك تصرخ إذا لامست شيئًا ساخنا، له الفضل في أنك تُبعد يدك سريعًا، ولا تدع جلدك يحترق، سواء لامست شيئًا شديد السخونة، أو حتى شيئًا شديد البرودة، نجاتك مرتبطة بهذه اللحظات من الألم التي هي بمثابة جرس إنذار، يدفعك لردِّ فعل يُنجيك مما هو أسوأ.
الألم هو الذي يقوم بتنبيهنا إلى أن هناك شيئًا غير طبيعي يحدث في جسدك، وأن عليك أن تفعل شيئًا.
وقد قرأت مرَّة: أن آلام الظهر يشعر بها المرء بصورة مخففة، ثم تزول، ثم تعود إليه بعد شهور بصورة أقوى، كأنها عقاب على أنه لم يُنصت لرسالة التحذير في المرة الأولى.
الألم الجسدي دليل على وجود مشكلة صحية تحتاج اهتمامك.
غير أن الألم النفسي يكون -أحيانًا- هو الأشد: الفقدان، والفراق، والخذلان، والخيانة، كلها تُحدث في النفس آثارًا قد لا تزول طيلة حياتنا، تترك ندبات لا تُشفى.
ثم إن الألم علامة على أن قلوبنا حية، أقوى دليل على أنك إنسان، ليس هناك دليل أقوى على ذلك من الألم.
انظر إلى الذين يشاهدون ما يحدث في غزة ولا تتحرك قلوبهم، ولا أحاسيسهم، هل تتمنى أن تكون مثلهم؟
عليك إذن أن تختار بين أن تكون بليد الإحساس، وستدفع ثمن ذلك، وبين أن يكون قلبك حيًّا؛ يتألم لكل مشهد، وستدفع -أيضًا- ثمن ذلك.
للأسف ليس هناك اختيار ثالث، قارن أنت بين الخيارين، وقرِّر بنفسك.
ثم إن الألم هو الضامن ألا ننسى، ألا نكرر الفعل الذي أدَّى بنا إلى فشلٍ ما، أو سقوطٍ ما، بل المطلوب ألا تعتاد الألم؛ فإنك إن اعتدته نسيت، وإن نسيت أُصبت بألم أعظم؛ عقوبة لك على نسيانك.
(3)
قرأتُ لابن قيم الجوزية أن رجلاً سأل الشافعي -رحمه الله- فقال: يا أبا عبد الله، أيُّما أفضل للرجل: أن يُمكَّن أو أن يُبتلى؟
فقال الشافعي: لا يُمكَّن حتى يبتلى؛ فإن الله ابتلى نوحًا، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمدًا -صلوات الله وسلامه عليهم، فلما صبروا مكَّنهم.
فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم ألبتة.
إن الله -عز وجل- يمنحنا نعمًا مادية كثيرة نكتشفها سريعًا ونعمل على استغلالها، مثل: الذهب، والنفط، والغاز، وغيرها، غير أننا لا نكتشف بسهولة النعم غير المرئية الأخرى.
نعم إن الخالق -عز وجل- يُنعم علينا بأدوات كثيرة جدًّا في الدنيا، وينظر إلينا كيف سنتعامل معها، فينجح بعضنا، ويفشل بعضنا، بل إن بعضنا لا يُدرك بالأساس سر وجودها، لذلك فإن الألم إن فهمنا مغزاه فهو نعمة.
الألم جزء لا يتجزأ من تجربة الإنسان، بل هو المعلم لأن تكتشف نفسك، وقدراتك، وقدرتك على الصمود والتحدي، ويشجعك على أن تنظر إلى الحياة من منظور جديد، وهو فرصة لتقدير لحظات السعادة والصحة عندما نعيشها.
(4)
في إحدى الروايات المعنية بأدب السجون ذكر الكاتب أن البطل كان يحدِّث نفسه وهو في انتظار وجبة تعذيب: أن الألم فكرة في الرأس، فإن غلبتها فكرة أخرى أقوى تراجعت.
قد لا يكون ذلك صحيحًا مائة في المائة، لكنه -على كل حال- محاولة لمواجهة الألم والتعامل معه.
كلنا يصيبنا الألم، لكن لسنا جميعًا جاهزين للتعامل معه، والتكيف مع ما يفرضه من حال، لسنا جميعًا نُحسن إدارة الألم.
حسن إدارة الألم يعني أن نتجنب انهيار حصوننا، أن نكتشف مصادر قوتنا، أن نعالج مواطن ضعفنا.
غزة هذه الأيام هي المثال الناجح لفكرة إدارة الألم.
قبول قضاء الله، والرضى به، مع الحزن كطبيعة إنسانية، شرط ألا تتوقف حياتنا.