(1)
يقف رجل ياباني منذ حوالي شهر طوال النهار رافعًا لافتته ضد الإبادة الجماعية في غزة.
ذكَّرتني حكايته بحكاية المرأة اليابانية التي عشقت فلسطين، وورَّثت حبها لابنتها.
(2)
وُلدت “فوسوكو شيغينوبو” في طوكيو، في الثامنِ والعشرينَ من الشهر التاسع لعام 1945م، وما أن تُنهي دراستها الثانوية، حتى تبحث عمل يسمح لها بمواصلة تعليمها الجامعي.
تنجح في ذلك، وتنشط في ذات الوقت في جامعتها، وتنضم إلى رابطة الجمعيات الطلابية، التي تميل إلى اليسار المناهض للحرب الدائرة حينذاك في فيتنام، والمعادي للرأسمالية والإمبريالية، وتتحصل وتحصل أخيرا على شهادة جامعية مزدوجة في الاقتصاد السياسي والتاريخ.
تنضم إلى الجيش الأحمر، وهو تنظيم يساري ثوري يؤمن بثورة اشتراكية عالمية، فتشعر صاحبتنا أن العالم أصبح أكثر اتساعًا، ولأن الرفاق يتعرَّضون للقمع فإن الثورة من داخل اليابان تراها مستحيلة، ويحدث أنها تشارك في إحدى اللقاءات التي تناولت القضية الفلسطينية، فتتحمس لها، يشاركها الهمَّ نفسه شاب آخر، فيقررا أن يقتربا من القضية أكثر.
(3)
يصلان إلى بيروت التي تحتضن حركات المقاومة الفلسطينية، ويتواصلان مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي ترحِّب بهما، وخصوصًا صاحبتنا التي أطلقوا عليها اسم: مريم، وألحقوها بمكتب العلاقات العامة، وتحديدًا بـ: (مجلة الهدف) التي يرأس تحريرها غسَّان كنفاني.
مريم اليابانية تناشد النشطاء في بلدها، الذين يستجيبون لها، فتشهد بيروت حراكًا يابانيًّا، من: أطباء، وفنانين، وكتَّاب.
غير أن علاقتها بالجيش الأحمر تهتز فتستقيل منه، لتمضي أكثر في تسخير جلِّ اهتمامها للقضية الفلسطينية، خصوصًا وأن الضربات تتصاعد بين الفلسطينيين، وبين العدو.
(4)
في الثلاثين من الشهر الخامس لعام 1972م، يصل ثلاثة شبان يابانيين إلى مطار اللد في تل أبيب، ليخرجوا من حقائبهم أسلحة رشاشة وقنابل، ويبدأون في إطلاق النار، ليسقط ما يزيد عن عشرين قتيلاً، وعشرات الجرحى، وفي ذاكرتهم الكثير من الجرائم التي ارتكبها الموساد، بل يتذكرون العدوان على مطار بيروت الذي دمر الاحتلال فيه 13 طائرة لبنانية.
تنتهي العملية بقتل اثنين منهم، وسقوط الثالث أسيرًا.
فتلفت العملية الأنظار لكل من هو ياباني، وتوجَّه تهمة التخطيط إلى الجبهة الشعبية، وإلى صاحبتنا.
يرد الاحتلال بعملية يُغتال فيها غسَّان الكنفاني، فيعتصر الحزن قلب مريم على أستاذها، ورئيس تحريرها، وتضطر إلى أن تبدأ حياة جديدة تتحرك فيها بسرية شديدة توقعًا لانتقام إسرائيلي، خصوصا وقد أنجبت: “مي”.
(5)
في الشهر السادس من عام 1973م، يَختطف عضو بالجيش الأحمر وأربعة من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، طائرة يابانية منطلقة من أمستردام في طريقها إلى طوكيو، ويجبرونها على الهبوط في دبي، مطالبين بالإفراج عن زميلهم الأسير، لكن الكيان يرفض، فتقلع الطائرة إلى دمشق ثم إلى بنغازي، حيث يتم إطلاق سراح الركاب، ويفجر الخاطفون الطائرة.
في الثالث عشر من الشهر التاسع لعام 1974م، تُقتحم السفارة الفرنسية في هولندا، ويُحتجز السفير الفرنسي ويُقتل ضابط الحراسة، ويُوضع عشرة أشخاص رهائن.
وبعد مفاوضات تُدفع الفدية المطلوبة، ويُفرج عن بعض أفراد الجيش الأحمر الموقوفين في السجون الفرنسية، مقابل الإفراج عن الرهائن.
يتزايد ضغط الرأي العام، ويُصدِر الإنتربول مذكرة باعتقال مريم، بناء على شهادة زور من أحد الرهائن، الذي سحب شهادته لاحقًا، غير أن مذكرة الإنتربول لم تتغير.
(6)
تمضي الأيام، ومريم اليابانية مختفية عن الأنظار، تنتقل من منطقة إلى أخرى في بيروت، وابنتها مي تكبر وتصبح فتاة يشهد لها بالذكاء والنشاط، لكن مع تزايد محاولات البحث عنها، قرَّرت الأم ألا يعيشا معًا؛ لإنقاذ ابنتها من أي محاولة اغتيال قد تتعرَّض لها من قِبل المحتل.
تعطي ابنتها صورة لهما الاثنين لا تُظهر إلا ظهريهما، تقول لها: عندك نسخة وعندي نسخة، فإذا أبلغك أحدهم رسالة مني دون أن يريك الصورة فاحذريه.
تمضي السنون إلى أن يحل الثامن من الشهر الحادي عشر لعام ألفين، ليرن هاتف الفتاة، ليسألها سائل: “هل عائلتك بخير؟”.
تُدرك أن السائل يقصد أمها، تقلِّب المحطات التلفزيونية لتجد الخبر: القبض على مؤسسة الجيش الأحمر فوسوكو شيغينوبو.
لقد نجحت أمها في التخفي قرابة ثلاثة عقود، بل نجحت في الدخول إلى بلدها، لكنها الآن في قبضة الشرطة.
تُقدَّم للمحاكمة، وتُعلِن حل الجيش الأحمر الياباني بلبنان.
وفي عام ألفين وواحد تنتهي من كتابة تقرير من مائتي صفحة، تصف فيه حياتهما السرية كأم وابنتها.
تحصل مي على الجنسية اليابانية بعد 27 عامًا من الحياة دون وثائق، تأتي من بيروت لدعم والدتها.
تُتهم فوسوكو بعدة تهم لم يتم إثباتها، لكنها أُدينت بحيازة جواز سفر مزور ومحاولة القتل العمد، ويُحكم عليها بعشرين عامًا.
وفي الزنزانة تكتب صاحبتنا كتابًا تهديه لابنتها سمته: (قررت أن ألدك تحت شجرة التفاح).
وفي 28 من الشهر الخامس لعام 2022م، يُطلق سراحها بعد قضاء محكوميتها.
تستقبلها ابنتها مي، تُلبسها الكوفية الفلسطينية، ويهتف متجمهرون: “نحبك يا فوسوكو”.